سينما الصورة فى ديوان (جايز ترتاح .. جايز)
للشاعر السعيد المصرى
بقلم الشاعر/ إبراهيم خطاب
بعيدا عن التطورات المتلاحقة لقصيدة العامية المصرية فى اللحظة الراهنة، لا أقول حتى أصبحت منافسا شرسا لقصيدة الفصحى وفقط.
بل فى كثير من الأحيان تجاوزتها بمراحل على مستويات عدة، من الصورة، اللغة، الشكل، الأسلوب، البناء، الطرح،.. الخ
فما بالنا اليوم ونحن نشهد هذا التطور المضطرد فى قصيدة العامية بشكل عام، وقصيدة (النثر) العامية بشكل خاص، تلك القصيدة الشعرية التى قامت على كاهل مجموعة من رموزها مثل الشاعر الراحل/ مجدي الجابري، والشعراء يسرى حسان، مسعود شومان، محمود الحلواني وغيرهم.
هؤلاء الذين تحملوا الكثير ومازالوا تجاه حفنة من الغوغائية تحت مسمى الذين لا علاقة لهم بالفن ولا بالنقد الأدبي، بل وانقطعت صلتهم بالإثنين منذ عشرات السنين، كما انقطعت صلتهم بما يسمى بالأصالة والمعاصرة فى النوع الإبداعى حتى فقدوا خاصية التمييز ما بين الأدب و....
ولم يلحظوا فى جهالتهم الثانية هذه أن منظومة الفن تسمح فى اطارها العام، لا بآلاف الأنواع الأدبية فقط، بل بما هو أكثر من ذلك دون قيد أو شرط.
وأن موسيقى الحياة فى هدير المياه، وزقزقة العصافير، ونقيق الضفدع، ونعيق البوم، وهسيس الريح، وفحيح الأفاعي، وسكون الموت، كل هذه الأنواع من الموسيقى هى بمثابة الإيقاع الداخلى المتواتر ، الذى لم يكن حاضرا بمخيلة الخليل بن أحمد الفراهيدى ـ عليه وعليهم رحمة الله ـ حتى أصبحت القصيدة النثرية ـ العامية ـ تتصدر المشهد الإبداعى من حملة أوتادها السابقين وحتى الشاعر/ السعيد المصرى بديوانه الشعرى (جايز ترتاح.. جايز) الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة.
أولا: مجموعة الديوان:
عبر سبعة قصائد هى مجمل محصلة الديوان الشعرى (جايز ترتاح.. جايز) للشاعر/ السعيد المصرى، وهى على هذا النحو:
1. بيرفرف فى طلوع الروح.
2. بيفوق على ريحة بنج.
3. بيرقص تحت المطرة.
4. باصص فى مراية ترعة.
5. شبورة بتنزل جواك.
6. بيهرب دمك من عواميد النور.
7. ريحة جتت الشهدا.
إذن نحن بصدد سبعة عناوين مختلفة لقصائد الديوان، أو بصدد (أيام الإنسان السبعة) للسعيد المصرى وليس الراحل الكبير/ عبد الحكيم قاسم، وبصدد أبواب الجنة السبعة، وربما أبواب النار السبعة، وسموات الله السبعة، وأراضين الله السبعة...الخ.
من التأويلات الكثيرة والتى تضعنا فى ملايين الإحتمالات والدلالات العديدة، لما لهذا الرقم (7) من دلالة قدسية وتراثية عبر مختلف الديانات والعقائد من ناحية، وبالمخيلة الإنسانية ـ أيضا ـ من ناحية أخرى.
فهل هذه العناوين هى بمثابة الدال الموضوعى على رحلة معراج الإنسان من الفناء الى الوجود الى الفناء؟
أم هى رحلة معراجه من الوجود الى الفناء الى الوجود؟
أم رحلة عذاباته منذ ولادته وحتى لحظة البعث الأخيرة؟
أسئلة كثيرة ودلالات أكثر تطرحها عناوين هذا الديوان الشعرى (جايز ترتاح.. جايز) خاصة مع ربط عنوان الديوان بعدد قصائده السبع كعدد دال.
ثانيا: المشهدية
قصيدة (النثر) العامية إضافة الى استفادتها الكبيرة عبر الهامش والمسكوت عنه والبسيط والمتروك، استفادت أيضا بشكل أكثر وعيا وبلاغة من اللغة السينمائية بمقاطعها ومشاهدها المختلفة.
إضافة إلى استفادتها من أكثر من نوع من أنواع الفنون كالفن التشكيلى والتصوير والموسيقى، والتوظيف التراثى، من الإسقاط، إلى التناص، إلى الحيل المختلفة.. الخ
حتى أن هذه المشاهد والمقاطع السينمائية أصبحت سمة أصيلة ومترسخة بهذه القصيدة، وخاصة فى هذا الديوان الشعرى الذى بين أيدينا (جايز ترتاح.. جايز) للشاعر/ السعيد المصرى.
ففى قصيدة (بيرقص تحت المطره) ص 21 : 29.
نرى مدى براعة الشاعر وإدهاشه فى الربط ما بين (زليخة) فى سورة (يوسف) وضوافر (داليدا) كإيحاء بفعل المراودة ما بين (زليخة ـ يوسف) وما بين (الكاتب ـ داليدا) فى مقطع شعرى أكثر من رائع حيث يقول الشاعر صـ 29.
دلوقتى بس
بسمع سورة (يوسف)
وحاسس بضوافر (داليدا)
بتمزّع فى هدومك.
وكأننا تارة نتعامل مع مقطع شعرى خالص، وخارج عن سياق النص الشعرى (منفصل)، وتارة أخرى نتعامل مع نفس المقطع من النص الشعرى إستكمالا لسياق النص ككل، وهذا مما يعد إضافة للنص الشعري.
وفى مشهد آخر يقول الشاعر فى قصيدة (باصص فى مراية ترعة) ص 35.
إبتدا يمسح بكمامه
إزاز النضاره..
م الشبورة
اللى بتكتر جواه .
لما اكتشف فجأة
إنه لوحده فى أتوبيس نقل عام
وإن الأسطى اللى مستخبى
ورا شبورة دخان سجايره الفرط
دايس ع السارينه
وبيزغر له بغيظ
فى مراية مشروخة
وإن الكمسرى اللى نايم
ع الكرسى اللى وراه
وفاتح صندوق التذاكر
للفراشات الملونه
اللى فلتت م الدبابيس والأستك
للشارع.
نلاحظ هنا عبر مقطع واحد من النص الشعرى
(باصص فى مراية ترعة) ص 35.
أنه من خلال هذا المقطع أو المشهد البسيط عبر هذه القصيدة، أننا بصدد ثلاثة مشاهد منفصلة متصلة فى آن واحد، وإن اختلفت الحالة والكادر من مشهد الى آخر.
ففى المقطع أو الكادر الأول حيث يقول الشاعر:
إبتدا يمسح بكمامه
إزاز النضاره
م الشبورة
اللى بتكتر جواه
نلاحظ من خلال هذا القطع أننا بصدد حالة عادية للغاية ومألوفة لنا جميعا من بداية السطر الأول لهذا المقطع لنفاجىء بمفارقة الشاعر فى نهاية المقطع أن الشبورة، ليست هى تلك الشبورة التى غطت وطمست زجاج النضارة، إنما هى تلك الشبورة الإنسانية التى طمست ما بداخل النفس الإنسانية (م الشبورة.. اللى بتكتر.. جواه)
وهذا مما أضاف الكثير من الدلالات والإحالات لهذا الكادر من خلال هذه المفارقة.
وبالمقطع الثاني حيث يقول الشاعر:
لما اكتشف فجأة..
إنه لوحده فى أتوبيس نقل عام
وإن الأسطى اللى مستخبى
ورا شبورة دخان سجايره الفرط
دايس ع السارينه
وبيزغر لى بغيظ
فى مراية مشروخة ..
فى هذا المشهد نستطيع أن نخرج بالعديد من الملامح والحالات الإنسانية الدالة والمعبرة، والتى قد يكون ضمنها وليست جميعها حالات الشعور بالغربة الداخلية والوحدة والإغتراب والفقد:
لما اكتشف فجأة.. انه لوحده، وكأن الشبورة أصبحت عاملا موازيا بالنص الشعري، فتارة لطمس ما بداخل النفس الإنسانية كما بالمقطع الأول ـ المذكور سلفا ـ ونارة أخرى أصبحت ستارا محسوسا للمواربة والهروب من اشياء غير مرئية حيث يقول الشاعر :
(وان الأسطى اللى مستخبى ورا شبورة..)
أضف إلى ذلك مدى طرح القصيدة الشعرية للعديد من الأسئلة دون السقوط فى هوة البحث عن إجابة أو يقين: (دايس ع السارينه .. وبيزغر لى بغيظ)
والسؤال لماذا؟ علينا أن نبحث خلف سطور النص الشعرى للوصول الى إجابات وليست إجابة واحدة، لهذا الأسطى البسيط المعدم المدخن لسجائره الفرط، لنكشف زيف هذا الواقع الذى نعيشه، وحالاته الإنسانية الكثيرة والمتردية من قاع الى قاع بالمجتمع وليس بينهما وسطا.
إلى أن نصل الى هذه النظرة المليئة بالغيظ لهذا الأسطى كانت: (فى مراية مشروخة)
أي أن نظرة الغيظ ـ أيضا ـ عبر مراية مشوهة ومشروخة ، هل كانت النظرة هذه عبر هذه المراية المشروخة، نظرة غيظ واحدة ـ إذا كانت المراية صحيحة، أم نظرتان ـ إذا كان هذا الشرخ الموجود بها أحالها الى قطعتين ـ أم أكثر من ذلك؟
لم يفصح الشاعر وترك المساحة خالية للمتلقي.
وكما تعود الكاتب يعود بنا فى نهاية المقطع الى فعل المفارقة من خلال هذه المراية المشروخة.
وفى الكادر، أو المشهد الثالث بنفس القصيدة
(باصص فى مراية ترعه) يقول الشاعر:
وإن الكمسرى اللى نايم
ع الكرسى اللى وراه
وفاتح صندوق التذاكر
للفراشات الملونه
اللى فلتت م الدبابيس والأستك
للشارع.
وهنا ودون الدخول فى تفاصيل الحالة الشعرية التى تتملك الشاعر، نجد أننا بصدد شاعر يبحث عن الحرية، والحرية فى إطارها العام من بداية أسطر أولى قصائد هذا الديوان الشعرى المتميز (جايز ترتاح.. جايز).
وحتى أسطر القصيدة الأخيرة بهذا الديوان.
إضافة إلى أن هناك العديد من الملامح التى يجب الوقوف عندها مليا تعمقا فى هذه التجربة الشعرية ضمن عناصرها، وخاصة ملمح اللغة ، تلك اللغة المختارة والمنتقاه بعناية لدى الشاعر، والناسبة لطرح رؤيته حول أشياء كثيرة، ربما نراها للوهلة الأولى أنها أشياء بسيطة، لكن خلف سطور النص ما هو عكس ذلك تماما، وحالات إنسانية شتى، ربما نراها كل يوم، وكل لحظة، ولا نلتفت اليها بحثا عن العمق والدلالة والمغزى، والصور الشعرية الإنسانية كثيرة ومطروحة ولكن.
لعين ثاقبة، وبزاوية رؤية تعى جيدا كيف تلتقط الحدث الإنسانى لإحالته الى لوحة تشكيلية رائعة. وهذا ما فعله الشاعر بنا وبحالاته المتعددة عبر هذا الديوان الشعرى المتميز (جايز ترتاح.. جايز) لنظل عبر هذا العنوان الآخاذ فى حالة من حالات التأرجح ما بين الشك واليقين بالراحة وإحتمالية عدم حدوث ذلك، هنيئا لنا بهذا الديوان وبكاتبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق