عن شعرية قصيدة العامية المصرية
بين قصيدة العامية و قصيدة التفعيلة
قصيدة العامية وليدة شرطها الشعرى و الجمالى و الثقافى تبحث عن شعريتها فى لغة الحياة اليومية بآليات و رؤى فنية خاصة بها، و تختلف بنيتها الموسيقية عن البنية الموسيقية لقصيدة التفعيلة فى شعر الفصحى و كذلك تختلف العلاقة بينها و بين الزجل عن العلاقة بين قصيدة التفعيلة و القصيدة العمودية فى شعر الفصحى، حيث أن قصيدة التفعيلة قامت بتكسير البيت الشعرى فى القصيدة العمودية الذى يتكون من عدد معيّن من تفعيلات البحر الشعرى الواحد و استبدلته بالسطر الشعرى الذى لا يلتزم بذلك العدد و تركت مسألة استخدام القافية لحرية الشاعر، و كما نظّرت لها نازك الملائكة فى كتابها " قضايا الشعر المعاصر " تعتمد قصيدة التفعيلة فى بنائها الموسيقى على تكرار تفعيلة من تفعيلات البحور الشعرية صافية التفعيلة التى تتكون من تفعيلة واحدة تتكرر طوال القصيدة و هى الهزج و الرجز و المتدارك و الخبب و الرمل و المتقارب و اعتبرت أن الوافر و الكامل من البحور ممزوجة التفعيلات اٍضافة اٍلى بحر السريع وأهملت باقى البحور الشعرية الممزوجة التفعيلات التى تتكون من أكثر من تفعيلة مثل المجتث " مستفعلن فاعلاتن " و التزمت بالمحددات العروضية التى تتعامل مع التفعيلة على أنها وحدة موسيقية تتكون من مجموعة من الحروف المتحركة و الساكنة، و أكدت نازك على قاعدة عروضية مهمة و هى عدم تنوع التفعيلات فى القصيدة الوحدة حتى لا ينتقل الشاعر من تفعيلة بحر اٍلى تفعيلة بحر آخر مما يؤدى اٍلى ضرب وحدة التفعيلة، بينما قصيدة العامية لا تلتزم بذلك فلشعرائها حرية تحوير التفعيلة بالزيادة أو النقصان فى الحروف الساكنة أو المتحركة دون الاٍلتزام بالمبررات العروضية المحددة لذلك نظرا لاختلاف العامية عن الفصحى فى طبيعتها الموسيقية، و كثيرا ما لا تلتزم قصيدة العامية باٍيقاع بحر شعرى محدد و تمزج بين تفعيلات متقاربة موسيقيا فى القصيدة الواحدة، مع ملاحظة أن بعض شعراء قصيدة التفعيلة فى شعر الفصحى خرجوا على وحدة التفعيلة و قاموا بالمزج بين التفعيلات فى القصيدة الواحدة و كان هذا المزج مقنّنا فى الغالب فيرى د.عز الدين اسماعيل أن الاٍنتقال من سطر شعرى مؤسس على تفعيلة اٍلى سطر مؤسس على تفعيلة أخرى اٍما يكون ( السطر الجديد بداية لمقطع شعرى جديد أو أن يعبّر السطر الجديد عن انتقال فى الموقف الشعرى، و اٍن لم يكن هذا و لا ذاك فيحتم أن يكون هناك علاقة تداخل بين التفعيلة المستخدمة فى السطر الشعرى الأول و السطر الثانى الذى يليه على أن يدخل فى اعتبار الشاعر استغلال هذه العلاقة فنيا )1 و اٍن كان هذا المزج المقنّن غالبا يمثل تجديدا فى قصيدة التفعيلة الفصحى بعد جيل الرواد و مع ذلك ظلت القصيدة المعتمدة على وحدة التفعيلة أكثر تواجدا بين الشعراء، أمّا فى قصيدة العامية فاٍن هذا المزج يمثل ظاهرة منتشرة فى منذ جيل الرواد و مثالا لذلك يقول صلاح جاهين فى قصيدة " شاى بالحليب " و هى من قصائده الأولى :
الزباين كلهم ع القهوه شكلى
يبقى بنت عيونها بحر من العسل
و الشعور السود خصل .. م البريق
شعرك خشن زى الحرام الصوف يا بت
و الشمس ثلج اصفر شعاعها صاروخ هوا
مجرّد اٍسم متشخبط على ورقه
فى السطر الأول تتكرر تفعيلة " الرمل " فاعلاتن ثلاث مرات و فى السطر الثانى تتكرر " فاعلاتن " مرتين و ينتهى السطر بتفعيلة " فاعلن" و نهاية السطر بهذه التفعيلة مقبول فى العروض، و فى السطر الثالث تتكرر" فاعلاتن " مرتين ، وينتهى السطر بتفعيلة " فعول" و هذا لا يوجد فى قصيدة التفعيلة فى شعر الفصحى، و فى السطر الرابع و الخامس ينتقل الشاعر اٍلى تفعيلة " بحر الرجز " "مستفعلن" و فى السطر الخامس ينتقل اٍِلى تفعيلة " بحر الوافر" " مفاعلتن " التى تكررت ثلاث مرات، فى المرة الأولى و الثانية تم تسكين الحرف الرابع المتحرك منها لتصبح " مفاعيلن ", انتقال الشاعر بهذا الشكل السلس بين التفعيلات سواء اتفق مع ما يراه د. عزّ الدين اٍسماعيل أو لم يتفق يدل على أن قصيدة العامية منذ جيل الرواد كانت أكثر مرونة و حرية من قصيدة التفعيلة الفصحى فى التعامل مع مسألة الأوزن و الموسيقى التى تأخذ مشروعيتها من اٍحساس الشاعر بها، فهى نابعة من داخل التجربة الشعرية بشكل يخضع لضرورات التجربة أكثر من خضوعه لضرورات العروض المتعارف عليها فى شعر الفصحى .
علاقة قصيدة العامية بالزجل
أمّا عن علاقة قصيدة العامية الحديثة بالزجل فهى مختلفة تماما عن علاقة قصيدة التفعيلة بالقصيدة العمودية فى شعر الفصحى، فاٍن كانت قصيدة العامية تختلف فى بنائها عن قصيدة التفعيلة الفصحى فالزجل من الفنون السبعة التى خرجت على بناء عمود الشعر و لم تلتزم بوحدة الوزن و القافية، و البناء الفنى للزجل يشبه البناء الفنى للموشح اٍلى حد كبير حيث تتكون المنظومة الزجلية من عدة مقطوعات، تسمى المقطوعة بيتا وتتكون كل مقطوعة من مجموعة أشطر بعضها يسمى أغصانا و بعضها يسمى أقفالا تتغير أوزنها و قوافيها من مقطوعة اٍلى أخرى، و هذا الشكل الفنى هو الذى يحدد هوية الزجل باعتباره نظما شعريا غرضيا يصاغ بالعامية يلتحم بالواقع و يعالج القضايا السياسية و الاٍجتماعية من منظور نقدى لا يقوم على نقل الأحداث كما هى و لكنه يعيد بناءها حسب الرؤية الفنية للزجّال و يعتمد بشكل أساسى على المفردات اللغوية الرشيقة و المفارقات "القفشات " الطريفة، و يختلف الزجل فى بنائه و فى خصائصه الفنية و أهدافه عن قصيدة العامية حيث أن الزجل فن غرضى يعالج قضية محددة و من ناحية ذلك فاٍن كل الفنون و الآداب لا بد أن يكون لديها ما تقوله، و لكن القضية المعالجة تكون أكثر تحديدا و بروزا فى الزجل كما فى فن الجرافيت أو فن الكاريكاتير، أمّا قصيدة العامية فتسعى اٍلى نقل حالة من التوتر الشعرى للمتلقى عبرالمفردات و التراكيب و الصور، و تعد رفدا من روافد حركة التجديد الشعرى التى تبلورت فى خمسينات القرن العشرين حيث قام د.غالى شكرى فى مقاله " شعرنا الحديث اٍلى أين ؟ " بمجلة حوار نوفمبر 1965م يتصنيف الشعر العربى ( اٍلى أربعة تيارات رابعهم التيار الثورى يقوده جناحان الجناح الأول هو الشعر الذى كتبه السيّاب فى أواخر حياته و الذى كتبه خليل حاوى و صلاح عبد الصبور و محمد عفيفى مطر و أدونيس و الجناح الثانى يقوده فؤاد حداد و صلاح جاهين و غيرهما فى القاهرة و سعيد عقل و ميشيل طراد و غيرهما فى بيروت )3 .
و الواقع أن الفنون الشعرية غير المعربة " العامية " فى أصل نشأتها كانت وليدة حركة تجديد فى الشعر العربى فعندما ظهر الموشح الذى خرج على عمود الشعر نسج أهل الأندلس على منواله بالعامية فنا سموه الزجل، و كذلك فن المواليا ابتكره أهل بغداد فى العصر العباسى و صاغوه بالفصحى ثم أخذه عنهم أهل بغداد و صاغوه بالعامية فنسب لهم و هم ليسوا بمخترعيه و كذلك المربعات الشعرية و الدوبيت، و اٍذا افترضنا أن قصيدة العامية قامت بتحطيم الشكل الفنى للزجل و أسست على أنقاضه شكلا خاصا بها كما فعلت قصيدة التفعيلة بالقصيدة العمودية فى شعر الفصحى فعلى أى أساس تمت عميلة هدم شكل و بناء شكل جديد ؟ و الأوزان تتغير فى الزجل الواحد من مقطوعة اٍلى أخرى و كذلك قصيدة العامية لها الحرية فى أن لا تلتزم بتفعيلة محدّدة، والواقع أن قصيدة العامية لم تخرج من رحم الزجل أو غيره من الفنون الشعرية الغير معربة " العامية " السابقة عليها، ولا يعنى ذلك أنها منقطعة الصلة بهذه الفنون بل هى وليدة تجربة شعرية تفاعلت مع تراث المواويل والزجل و البلّيق والدوبيت دون أن تتقولب فى أشكالها الفنية أو تطور هذه الأشكال أو تتبنى أغراضها وفى نفس الوقت انفتحت على أفاق الشعر الحداثى واختارت لنفسها شكلا فنيا أقرب اٍلى الشعر الحر بعيدا مفهوم جبرا اٍبراهيم جبرا للشعر الحر على أنه الخالى من الوزن، و بعيدا عن مفهوم نازك الملائكة للشعر الحر على أنه على شعر التفعيلة الذى تلتزم فيه القصيدة باٍيقاع تفعيلة بحر شعرى معيّن من التفعيلات التى حدّدتها نازك فى كتابها قضايا الشعر المعاصر، و انحازت قصيدة العامية منذ نشأتها لاٍمكانية المزج بين التفعيلات المتقاربة حسب ما تتطلبه الضرورة الفنية .
نشأة قصيدة العامية المصرية
وأغلب الظن أن اٍرهاصات قصيدة العامية ظهرت بشكل طفيف فى بعض الأعمال لبيرم و خاصة القصيرة منها فى ديوان أزهار و شوك، و بعض الأعمال الأخرى اقترب فيها من تخوم قصيدة العامية الحديثة من حيث تعبيرية المفردة و بناء المتخيل الشعرى كما فى قصيدة فلاحة التى قال فيها بيرم :
يا للى على الأغراب
والأقربين هونتى
حتّة حصيرة و زير
واقعد أنا و انتى
و انظم عليكى كلام
ما ينظموش دانتى
اللى فى جحيم اتسجن
وانا وانتى فى جنه
أما عن أول من كتب قصيدة العامية الحرة فهناك من يرى أنه فؤاد حداد و هناك من يرى أنه صلاح جاهين وقد ذكر صلاح جاهين بنفسه فى مقدمة أعماله الكاملة أنه عندما قصيدة فؤاد حداد التى يقول فيها :
فى سجن مبنى م الحجر
فى سجن مبنى من قلوب السجانين
فضبان بتمنع عنك النور و الشجر
زى العبيد مترصصين
وكان ذلك فى عام 1951 ( كنت قد بدأت أنا الآخر بضعة محاولات بالعامية، أغلبها متآثرة بالأستاذ الكبير بيرم التونسى ، و لذلك هالنى أن أن أقرأ بالعامية نظما يسير فى طريقه الخاص، وقضيت مع فؤاد حداد زمنا لا أذكر طوله، و لكنه كان كافيا لأن تتكون فىّ .. نواة ما يسمى بشعر العامية المصرية )4.
وهناك من يرى أن لويس عوض 1915ـ1990م هو أول من كتب قصيدة العامية فى ديوان ( بلوتولاند وقصائد من شعر الخاصة ) الصادر عام 1947م وقد كتب لويس عوض قصائدة فى الفترة من 1938م حتى 1940 م عندما كان طالبا فى جامعة كمبردج وقد صدرت الطبعة الثانية من هذا الديوان من الهيئة العامة للكتاب 1989م ويقول د.عبد العزيز موافى عن هذا الديوان أن ( معظم شعره أقرب اٍلى النظم و تغلب الصنعة الشعرية به على الفطرة الشعرية، لكننا فى ـ المقابل ـ نشير اٍلى أهمية هذا الديوان تاريخيا حيث يحتفظ للويس عوض فى الريادة الحقيقة فى مجاليين أساسيين قصيدة التفعيلة و قصيدة العامية اٍلى جانب تكريسه لقصيدة النثر )5 وهذا الديوان هو الاٍنتاج الشعرى الوحيد للناقد والمفكر الشمولى لويس عوض وما يخص العامية فى هذا الديوان ثلاثة عشر نصا منها خمسة نصوص قصيرة وثمانية نصوص يسميها " سونتيات " ويقول لويس عوض فى أحد هذه السونيتات وهى سونيتة رقم 7 :
لا مرمر الرومان و لا المعاقل
ولا المصاطب فى حمى منفيس
ولا الهياكل قدها الأوائل
ولا المسله من عهود رمسيس
السبب فى أن هذه القصائد يغلب عليها النظم و الصنعة أن لويس عوض قد دعا اٍلى كتابة الشعر بالعامية كجزء من دعوته ـ أنذاك ـ لاٍستعمال العامية المصرية فى الكتابة بدلا من الفصحى، و أسماها اللغة المصرية فقد أراد أن يفعل ما فعله " دانتى اليجيرى " فى الاٍنتقال من اللغة اللاتينية المقدسة اٍلى لهجتها الاٍيطالية المتداولة، حيث يقول فى ختام الطبعة الثانية من هذا الديوان أنه كان يبحث ( عما يبحث عنه دانتى الليجيرى عندما وضع أساس الأدب الاٍيطالى عام 1300م )6 وهى دعوة تنطلق من هاجس وتجربة فكرية وليس من تجربة شعرية لها ضروراتها الفنية، وهذه النصوص فى أفضل حالاتها تأخذ الشكل الخطى البصرى" الفضاء النصى " لقصيدة العامية الحرة وهو الحيز الذى تشغله الكتابة ذاتها باعتبارها حروفا مطبوعة على مساحة الورق، دون أن يكون هذا الشكل انعكاسا للبنية الجمالية اللغوية وتشكيلاتها الموسيقية النابعة من داخل التجربة، ولو افترضنا أن فؤاد حداد أو صلاح جاهين قد أخذ هذا الشكل الطباعى البصرى من لويس عوض، برغم أن هذا الشكل كان معروفا من خلال ترجمات الشعر الغربى اٍلى اللغة العربية فهل يكون هذا كافيا لريادة لويس عوض لقصيدة العامية ؟!، فهناك فرق بين الدعوة لكتابة الشعر بالعامية بدلا من كتابه بالفصحى والبحث عن الشعر ذاته فى العامية أو الفصحى، وهذا ما أنجزه الشاعران الكبيران فؤاد حداد و صلاح جاهين، فى البحث عن الشعرية فى لغة الحياة اليومية وتأسيس قصيدة العامية المصرية بغض النظر عن من كتب قبل من .
فالشاعر الكبير فؤاد حداد ( 1927 ـ 1985م ) ذو الأصول الشامية قد سلك دروبا شعرية غير مطروقة من قبل و حلّق بقصائده فى فضاءت جديدة حيث يقول فى ديوان أحرار وراء القضبان الصادر سنة 1952م :
قضبان ما بتحسش يا محروم الحنان
تحلم بسمرا الصبح تسقيك اللبن
تصحى على الديدبان كمان
قضبان ما ترحمش الضلوع
قضبان كأن الفجر مشروع انتحار
قضبان كأن الصبح شمسه من دموع
قضبان على جبين النهار
و استخدم فى شعره رموزا من الثقافة العربية و تراث الفكر الاٍنسانى كما فى قصيدة ليلة الاٍنسان حيث يقول :
الحوارى تلفّ قبل الخيال
بكره فى امبارح هنرجع عيّال
فى كفوف المكفوفين السلال
دستوفسكى فى ألف ليله و ليله
فى الصوابع نور من الدبدبة
بشليم يسمع اٍلى بيدبا
هذا بالاٍضافة اٍلى عشقه للتراث الشعبى الذى اكتشف فيه عروقا شعرية نفيسة أعاد صهرها و صياغتها و جعلها جزءا من ذاته الشعرية كما فى رائعته المسحراتى تلك الشخصية الشعبية التى استخدمها فؤاد حداد كقناع رمزى يبث من خلاله رؤاه الشعرية للواقع المصرى و العربى، و يوقظ النائمين يقظة لا نوم بعدها مستخدما اللازمة الشعرية ( اٍصحى يا نايم وحد الدايم )
و الرجل تدب مطرح ما تحب
و انا صنعتى مسحراتى فى البلد جوّال
حبيت و دبّيت كما العاشق ليالى طوال
و فى كل شبر حتّه من بلدى حته من كبدى حته من موال
و فى بعض ترجمات فؤاد حداد للشعر العالمى امتزجت رؤية المترجم بحساسية شاعر العامية كما فى قصيدة حرية للشاعر " بول اٍيلوار " التى ترجمها فؤاد حداد من الفرنسية الى العامية المصرية شعرا حيث يقول :
على كراسات المدرسة
أنا باكتب اٍسمك
و على الرمال و على الجليد
أنا باكتب اٍسمك
على كل صفحة العين قرتها
على كل صفحه لسه بيضا
و حجر و دم ورق رماد
أنا باكتب اٍسمك .
أما الشاعر الكبير صلاح جاهين (1930ـ1986م ) فقد كان له دور بارز فى تأسيس شعرية قصيدة العامية و قد قال عنه د.محمد كمال عبد الحليم فى مقدمة ديوانه الأول " كلمة سلام " الصادر عن دار الفكر 1955م ( اٍنه كان يسير مع فؤاد حداد ساعدا فى ساعد و صرخة فى صرخة )7 و قد تمكن صلاح جاهين من أن يغوص فى الوجدان الشعبى لكى يؤسس شعريته الخاصة بمفرداته الرشيقة المشحونة بالفلسفة، و السخرية و صوره الشعرية الملونة النابضة بالحركة و مفارقاته التصويرية التى تبرز التناقض بين طرفين متقابلين حيث يقول فى قصيدة القمح مش زى الدهب :
القمح مش زى الدهب
القمح زى الفلاحين
عيدان نحيلة جدرها بياكل فى طين
زى اسماعين
و حسين ابوعويضه اللى قاسى و انضرب
علشان طلب
حفنة سنابل ريّها كان بالعرق
و فى قصيدة غنوة برمهات يقول :
وعلى العشش و على الحوارى الغواط
يا قلبى لمّا تروح
ما تروحش لا بلبل و لا وطواط
روح زى ما انت قلب له ألف عين
و ألف ودن و ألف ألف لسان
و فى " الرباعيات " قدم لنا تجربته فى صورة قطرات شعرية مركّزة برؤيا شاعر قادر على اختزال موقفه من الاٍنسان و الوجود فى شرائح ميكروسكوبية شعرية و يقول فى اٍحدى هذه الرباعيات :
الضحك قال يا سم ع التكشير
أمشير و طوبه و انا ربيعى بشير
مطرح مااكون بانتصر ع العدم
اٍن شا الله اكون رسمايه بالطباشير.
بعد جيل الرواد و المؤسسين فؤاد حداد و صلاح جاهين و فؤاد قاعود و جيل الستينات سيد حجاب و مجدى نجيب و غيرهم، ظهر تيار جديد منذ منتصف السبعينات فى شعر العامية تجلّت ملامحه الفنيّه فى أشعار محمد كشيك و يسرى العزب و عبدالدايم الشاذلى و سلامة عيسى و غيرهم، و عن هذا الجيل يقول الشاعر و الناقد حلمى سالم ( اٍن هذا الجيل لم ينطلق من الاٍعتقاد السائد فى السنوات السابقة لأسباب سياسية و نقدية معا أن الشعر العامى ينبغى أن يصل اٍلى العامة جميعا مباشرة و أن يعبر عن قضاياهم )7 و يعد هذاالتحول فى الموقف الفكرى و التشكيل الجمالى لقصيدة العامية، اٍنجازا يذكر لهذا التيار الذى تميز شعره بالحسّ الصوفى و استخدام اٍحالات و رموز من الثقافة العربية و العالمية بشكل قد يثقل القصيدة و يؤدى اٍلى استغلاقها أحيانا و يرى حلمى سالم أن الذهنية و التجريد من أهم الملامح المميزة لهذا التيار ( تتحقق الوظيفة الفنية للتذهين و التجريد فى اٍرتفاعه بالرؤية الشعرية من التخصيص المحدود اٍلى التعميم اللا محدود دون أن ينتفى التخصيص و التعيين فى أن )8 و يدلل على ذلك بمقطع من قصيدة نصين فى مراية واحدة للشاعر ماجد يوسف قال فيه :
بسكينة و تفاحة
فلقنا فى القمر نصّين
ف نص اللغز بيرعرع
و نص بيعمى نور العين
لا طلنا السر بالمرة
و لا ضوء انفجر بره
و لا لملنا فى الشطين .
عن قصيدة العامية المعاصرة
فى منتصف التسعينات من القرن العشرين ظهرت قصيدة النثر العامية فى أشعار مجدى الجابرى (1961ـ 1999 م ) و محمودالحلوانى و مسعود شومان و يسرى حسان و غيرهم، جاءت قصيدة النثر العامية بجماليات و نكهة جديدة تضيف اٍلى منجز قصيدة العامية حيث يقول مجدى الجابرى فى قصيدة فيلم فى المسابقة الرسمية :
طبيعى
اٍنك تقول لصاحبك ع القهوة
الحياة مش بروفه
و طبيعى
اٍن أبوك يخاف عليك و على اخواتك م الموت
ليشوش مخزونه الهايل
من المشاهد اللى نفسه يكون فيها
اٍن شعرية مجدى الجابرى لم تتوقف عل مسألة الريادة فى كتابة قصيدة النثر العامية فأعظم ما يتبقى من الشاعر هو شعره أيّا كان شكله الفنى أو لغته، و مجدى الجابرى كان شاعرا حقيقيا ـ برغم نثريته ـ ينسج من الذاتى و الهامشى و العادى شعرا حقيقيا و جديدا و قد تبلورت تجربته الشعرية فى دواوينه التى تركها قبل رحيله عيل بيصاد الحواديت و الحياه مش بروفه وغيرها .
اٍن الحديث عن نشأة قصيدة النثر العامية و الاٍقرار بأنها ثورة على صرامة البناء العروضى لقصيدة التفعيلة تماما مثلما فعلت قصيدة النثر فى شعر الفصحى فيه نوع من التعسف و الربط القسرى، فاٍن كان رواد قصيدة النثر الفصحى قد أعلنوا أنها الموجة الثانية من موجات الحداثة الشعرية، استغنت عن البناء الموسيقى لقصيدة التفعيلة، و قطعت صلتها بأوزان العروض فاٍن الأمر مختلف فى شعر العامية حيث أن قصيدة العامية الحرة لها مطلق الحرية فى أن لا تلتزم بما تلتزم به " قصيدة التفعيلة الفصحى" من ناحية الوزن العروضى، و بذلك تمتلك حرية واسعة فى الاٍنتقال بين التفعيلات برشاقة بما تتطلبه ضرورة التجربة، فكيف يقال بعد ذلك أن قصيدة النثر العامية تخلصت من الوزن العروضى الصارم لشعر العامية ؟! و أين هذه الصرامة ؟! و خلاصة القول فى هذا الصدد ـ من وجهة نظرى ـ أن قصيدة النثر العامية حالة شعرية ذات مزاج خاص لا تلعب موسيقى الشعرالعامى المعروفة ـ برغم مرونتها و تلقائيتها ـ دورا فى بنائها و نقلها للمتلقى و يتوقف ذلك على الاٍحساس الداخلى للشاعر بأن الموسيقى صارت عبئا على تجربته، و يستطيع أن يحقق شعرية جديدة و مختلفة بدونها .
برغم مرور حوالى عشرين عاما على ظهور قصيدة النثر العامية فاٍن المعارك التى نشبت بين النقاد و الشعراء حول قصيدة النثر و قصيدة التفعيلة فى شعر الفصحى، لم تنتقل بنفس الحدة اٍلى ساحة شعر العامية و لم يهاجر معظم شعراء العامية من قصيدة الشعر الحر اٍلى قصيدة النثر، لأن شعر العامية بوجه عام لم يستنفذ طاقته الموسيقية المستمدة من اٍيقاعات الحياة اليومية و حركة الناس فى الشوارع و المقاهى ومحطّات القطار ، و هذا لا ينفى وجود قصيدة النثر العامية فلها شعرائها المبدعين، و كل شاعر يحلّق بطريقته. و المتابع لقصيدة العامية المعاصرة بشكليها " النثرى" و " الحر" يرى أنها ارتادت أفاقا جديدة و استفادت من السرد و من فنون السينما و المسرح فى استخدام التقطيع الصورى " المونتاج " و الحوار، اشتبكت باليومى و الهامشى و مزجت بين الصورة المجازية المبتكرة و الصورة الطبيعية أو الواقعية التى تستمد عناصر بنائها من الواقع لا تعيد اٍنتاجه عن طريق المحاكاة بل تعيد تشكيله حسب رؤية الشاعر له، كما فى قصيدة حبّة هلاليل للشاعر محمود الحلوانى الذى يؤسس شعرية القصيدة من خلال اٍقامة علاقات غير عادية بين أشياء تبدو عادية و خاصة " الضحكة ،الهلاهيل ،الدواليب " حيث يقول الشاعر :
تسمع كركعة الضحكة
و هى بتجرى ورا الضحكة
تقول ..
يا سلام
حبّة هلاهيل
بتونس بعضيها ف ليل وحدتها البارد
فى الدواليب الواسعة
مجرّد حبّة هلاليل
بتردّ العتّه
و قرقضة الفيران
و النسيان .
و العلاقات بين مفردات هذا المشهد الشعرى لا تركن اٍلى الثبات و عرض الأشياء متجاورة فى فضاء القصيدة على شكل طبيعة صامتة، و لكنها علاقات جدلية تقوم على تمثيل فكرة الصراع بين الضحكة / الهلاليل و الونس و بين العثّة / فاعل التلاشى و النسيان فى ليل الوحدة البارد من خلال الأفعال و الحركة و حكائية السرد .
و فى قصيدة يا دوب تلحق للشاعر محمود عبد الباسط اعتمد الشاعر على السرد الشعرى المشهدى القائم على التصوير و التشخيص كأداه محورية لعرض تجربته الشعرية و جذب انتباه المتلقى لصورتها الكلية حيث يقول :
طالعه عليك الدنيا
لا نهارها و لا ليلها
حاجه كده تحيّرك
شقشاق ضيا بهتان
لا فجر و لا مغرب
كل الفصول الأربعه
تحضر ف هذا اليوم
و تبقى عيل و شبّ و عجوز
و يطعّم السرد بالحوار لتقديم المشهد الشعرى عن طريق التمثيل بدلا من وصفه مما يجعله أكثر حيوية و درامية حيث يقول :
يا ولادى عدونى الطريق
يا عم ده مش طريق
دى جناين ورد
كده ..
حدونى ريح الشجر
أشكى له من علّتى
**************
الاٍحالات والهوامش
1 ـ د. عز الدين اٍسماعيل ـ الشعر العربى و ظواهره الفنية و المعنوية ص 102
2ـ نشأت المصرى ـ صلاح عبدالصبور الشاعر و الاٍنسان ص 88 ـ الهيئة العامة للكتاب 1983
3ـ مقدمة الأعمال الكاملة لصلاح جاهين ص 5 ـ الهيئة العامة للكتاب 1977
4 ـ د .عبدالعزيز موافى ـ لويس عوض و ثقافة الصدام ـ مجلة نزوى ـ 27يوليو ـ 2009
5ـ لويس عوض ـ بلوتولاند و قصائد من شعرالخاصة ـ الطبعة الثانية ـ ص 146ـ الهيئة العامة للكتاب 1989
6ـ صلاح جاهين ـ كلمة سلام ـ دار الفكر ـ 1955م ص5
7 ـ حلمى سلمى ـ تيار التجديد فى شعرالعامية المصرية الراهن ـ مجلة التطور و الاٍنسان اٍبريل 1987
8 ـ نفس المصدر السابق