دراما الثورة
من ترميز الحلم إلى توثيق الحكاية
أ.د.محمد فكري الجزار
(1)
......
تأتي مسرحيتا أحمد سراج
في سياق واحد متصل، وقد أحسن إذ نشرهما معًا، فقبل الثورة بعام كامل (يناير 2010) كتب سراج نص "القلعة والعصفور"، وبعد الثورة (2011) قدم نص "فصول السنة المصرية"، ومن الواضح من عنواني النصين، أن أحدهما رمزي، بينما يشير الآخر إلى الطبيعي: (فصول السنة) مخصصا بمصر: (المصرية). هذا التفاوت بين الرمزي والطبيعي يفسر التفاوت الزمني "ق. ث": (قبل الثورة) و"ب. ث" (بعدها)، وما يجب لأي منهما من رؤية للواقع مختلفة عن الآخر تخالف ولابد بين الرؤى الفنية التي تقف خلف بناء كل منهما.
ولنشر النصين معًا فعله التأويلي. فباعتباره واحدة من عتبات النصين، تلتحق صفة المصرية بالنص السابق على الثورة، لتصبغ مفردتيه بهما وتخفِّض بالتالي من رمزيتهما وتشحنهما بالقدرة إلى الإحالة إلى السياق الخارجي. وكأن المؤلف قد شعر بهذه القدرة الإحالية لعنوانه فدفعها دلاليا للأمام بقوله في عتبة أخرى بعنوان "إضاءة": "كِي تَكْتَمِلَ الْحِكَايةُ: جَمِيعُ الأسْمَاءِ وَالأمَاكِنِ الوَارِدَةِ لَيسَتْ مِنْ وَحْي خَيَالِ الْمُؤَلِّفِ، وَكَذَا الأحْدَاثِ وَالتَّفَاصِيلِ، اللهُمَّ إِلا النِّهَايَةَ – وَأَتَمَنَّى أَنْ تَتَحَقَّق". وهذا التعليل "كي تكتمل الحكاية" يؤسس للإحالة الواقعية للترميز الدرامي المغرق الذي قامت عليه المسرحية، وبالتالي يترجح النص بين الرمزي والواقعي، يساعده في ذلك تضافر الاثنين في مفردتي العنوان: "القلعة" و"العصفور".
هذا الترجّح ينتهي تماما بصفة "فصول السنة"، فهي صفة – إذا نظرنا إلى موصوفها – تبدو زيادة لفظية لا تضيف معنى جديدًا، إذ إن فصول السنة لا تختلف باختلاف الأماكن، الأمر الذي يدفع إلى تأويل "الموصوف" فلا نجد إلا التعليل غير المقنع "كي تكتمل الحكاية"، وكأننا إزاء عنوان آخر مسكوت عنه لسبب ما: "الحكاية المصرية"، وهو ما يتطابق تطابقًا كاملاً مع "القلعة والعصفور"، فكلاهما حكاية تحرر وإن كان الأخير أخذ منحى رمزيًّا، لا لشيء إلا لأن الحكاية ما تزال في دائرة الرجاء، وما إن دخل الرجاء دائرة التحقق حتى انكشف الرمز عن مرموزه وتجلت الحكاية في اكتمالها فصولا أربعة في المسرحية الأخرى.
إن الأديب، في ممارسته الإبداعية، يمثل رأس الرمح في وعي جماعته، ولكن في لحظة استثنائية يتجاوز وعي الممارسة عند جماعته كل وعي فردي وإن كان وعي أديبها، إنها لحظة استثنائية بكل المقاييس وليس لها اسم آخر غير "الثورة"، والأديب الحق الذي يعترف لجماعته بما حققته فيصبح نصه توثيقا فنيا لفعلها وممارستها. والنصان يتوزعان على هذين الوعيين، أما النص الرمزي فيمثل وعي الأديب، في لحظة سابقة على الثورة أراد المؤلف إعطاء ما يعتمل في سيكولوجية جماعته شكله ورؤيته وخطابه من خلال نصه، والنص الواقعي يمثل وعي الجماعة في لحظتها الاستثنائية، أراد المؤلف أن يلتقط منها الجوهري الذي يتكرر في تنوع ظاهراتها المتكثرة، ويكون إنجازه الإبداعي أنه تمكن من القبض على ذلك الجوهري.
مسرحية "القلعة والعصفور" – إذن – تتنبأ بالثورة، ولكنها سلكت مسلكًا لتحقيق هذه الثورة أقل مما حققه الواقع في مسرحية "فصول السنة المصرية"، والمؤلف يعي المسافة بين نبوءة الثورة وإعجازية تحققها، يعي هذه المسافة وعيًا جعل المسرحية الثانية أقرب ما تكون إلى الدراما التسجيلية لولا أن شخوصها وأحداثها غير متعينة واقعيًّا، وإن كانت ممثلة لكل تعيناتهما تمثيلاً شديد الصدق.. إنها تقيم على مسافة من الأولى، فالواقع سيد النص، ولا وجود إلا للشعب ممثلاً في بعض الشخصيات، ولا توجد مملكة إلا آثارًا على جسد الشعب وسيكولوجيته.
وإذا كان عنوان المسرحية الأولى قد اعتمد على مفردتي "القلعة" ممثلة لمملكة الوهم و"العصفور" ممثلة لحلم الانعتاق، فالمسرحية الثانية تأخذ عنوانا فرعيا (شارحًا) للعنوان الرئيسي مكونا من مفردتي أيضًا: "الجسد" و"النبوءة"، وعلى الرغم من اختلاف المسرحيتين اختلافَ الحلم والتحقق، فثمة تدالّ بين المفردات الأربع، بجامع القيد في كل من القلعة والجسد، وإن كانتا متمايزتي الاستخدام والدلالة كل في نصه، وكل من العصفور والنبوءة بجامع الحرية مع التأكيد على تمايزهما – أيضًا – كل في نصه.. بما يؤسس لمربع سيميائي على قدر كبير من الأهمية في قراءتنا:
يعبر المربع السيميائي للعتبة الثانوية لمسرحية فصول السنة المصرية، والعتبة الرئيسية لمسرحية "القلعة والعصفور"، عن كامل الجدلية التي تقوم عليها بنيتي المسرحيتين اللتين تنضبطان وفق التقابلين الثنائيين: التناقض: "قيد – لا قيد"، وشبه التناقض: "لا قيد – لا انعتاق"، وتتقاطع جميع الأطراف في مركز التقائهما "الثورة". هذا المركز الذي تستعلن تجلياته في شبه التناقض الذي عملت مسرحية "القلعة والعصفور" على صياغته باعتباره الحلم الممكن، أما في مسرحية "الجسد والنبوءة" (فصول السنة المصرية) فكان للواقع فعله ومن ثم استعلنت الثورة على محور التناقض الحاد "القيد – الانعتاق".
(2)
شبه التناقض:
في مسرحية "القلعة والعصفور"، يحاول المؤلف تعرية مملكة الوهم وتفكيك بنيته، وفي السبيل للتحول الممكن من الوهم إلى الحقيقة الذي يبتغيه النص، لا يجد المؤلف للثورة الأكثر أمنًا، غير ما يطلق عليه "الثورة من داخل القصر"، ولكن من خلال حامل "الوعي الممكن" بتعريف "جولدمان" له، أو لنطلق عليه "رجل الحقيقة"..
وكما كان لابد لقصة الملك العاري للدانماركي "كريستيان أندرسون" من طفل لكشف الحقيقة، كان لابد لمسرحية "القفص والعصفور" من شخص ما (يطلق عليه المؤلف "الرجل") ليرى الجميع أن المملكة عارية وأن نفاق رجالها واحتيالهم هو ما يجعلها على ما هي عليه. ففي حوارية طويلة يستبدل المؤلف بالخيط الدرامي تقنية "اللغز – الحل" حتى لا يمكن لأحد التعرف على قصة المسرحية إلا من خلال متابعة الحوار، فكل شخوص المسرحية وراءها قصة تشتبك ببعضها بعضًا، بينما لا تستعلن مسرحيًّا إلا منفردة حتى إذا تشابكت الخيوط وتجلت العلاقات كان ذلك إيذانا بتفكيك أحبولة الشيطان الساكنة تحت ظاهر السلطة ومظاهرها.. وبدلاً من طفل "أندرسون" يكون "الرجل" الغريب هو الإضاءة الكاشفة لتلك الأحبولة، ففي أثناء الاستعداد الطقسي للحرب المقبلة يمسك الجنود بشخص غريب يأتون به إلى مجلس الحرب المجتمع بأمره مع الملك الذي لا يملك مخالفة ذلك الأمر، ويبدأ الرجل الغريب/رجل الحقيقة في كشف ماضي كل شخصيات السلطة، ليعيش كل منهم ماضيه ويقف كل منهم أمام خطاياه.
ولأن النص عن ثورة افتراضية، أو انقلاب داخل القصر، فالمسرحية تعتمد على بنية التحول الانقلابي في مواقف الجميع، اللهم إلا الغريب الذي لا ينتمي إلى المملكة "شيخ التجار" أو بائع الأوهام، ويمكن أن نضيف له "الملك" الذي يحضر في البداية ويغيب في النهاية بلا أدنى أثر على نمو النص ولا أدنى أثر على تحقق فكرته/رؤيته. والتحول الانقلابي في المسرحية يأتي عبر تكرار اللغة الطقسية لاجتماع مجلس الحرب مرتين، المرة الأولى في البداية، والأخرى قرب النهاية وبينهما. وهذا تكرار لافت بالتزام اللغة نفسها في المرتين (وكأن المؤلف يشير إلى هدم الوهم/النظام دون المساس بالمملكة/الدولة). كان الأول لتعرية الوهم عبر "رجل الحقيقة"، وكان الآخر لاكتشاف الطريق عبر الجميع، الجميع بما فيهم الشعب.
هي دعوتان لمجلس الحرب إذن، وتأخذان الصيغة اللغوية نفسها والطقوس نفسها، الجميع يؤدون أدوارهم الطقسية بآلية غريبة، الأولى خاصة بتعرية الوهم والكشف عن حقيقة هؤلاء الرجال المزيِّفين والمزيَّفين، سواء الملك أو ملأه حيث يواجه الجميع ماضيه الشخصي، والأخرى مخصصة لفعل نقيض لكل ما سبق، ودخول الشعب إلى بنية المملكة، وبداية الحلم بعصر الحقيقة الذي تلخصه النهاية.. وكما تتوزع المسرحيتان على دعوة مكررة لمجلس الحرب أو على مجلسي حرب بالأحرى، تتوزع النهاية على ذكر الماضي (الحكاية) وصناعة المستقبل، حيث يخرج "الملك" من خشبة المسرح دون أن ينتبه له أحد، ويتوجه الحاضرون إلى الجمهور الذي عينوه "قضاة" للحكاية، والسؤال سؤالان:
من يستحق العقاب؟ (على الماضي)
من يستحق التاج؟ (ليتجه إلى المستقبل)
الرجل: ألقوا أسلحة الحرب، وليحمل كل منكم سلاحه الحقيقي، فأسًا كان أم قلمًا.
كبير الوزراء: والثأر؟
الرجل: سنحكي حكايتنا كاملة (يخرج المـلـك دون أن ينظر إليه أحد) ثم يكون الحكم قصاصًا لا ثأرًا (يواجه الجمهور) ننتظر منكم الحكم وأن تبنوا قلعتكم (إظلام وتتركز بقعة ضوئية على الرجل، ثم تركز بقعة على كل متحدث)
كان يا ما كان، ويكون يا ما يكون (صمت) بشرٌ كادحون، طيبون، وُدعاءُ، متسامحون، يقتسمون الكسرة، وهم يبتسمون
كبير الوزراء: يحكمهم واحد منهم، حتى هبط الشيطان (يشير بيديه فِيظهر شيخ التجار خلفه فِي قفص الاتهام)
الرجل: لا يا سادة، الواحد صار ملكًا، يرِث ويورِّث، يصنع حاشية، يعزل ويولي، يَجوع الناس... لا يهم، يَموت الناس... لا يهم
القائد: كذب الشيطان كذبة، وصدقها الجميع
الفتاة: الشعب لكي ينسى همه، والمـلـك ليترسخ حكمه، والحاشية ليحصد كل منهم إرثه
الحاجب: لكن الشيطان كان خبيثًا
الرجل: لا بد من أن يكون الشيطان خبيثًا مذمومًا ملعونًا
القائد: تجمع مملكة الأحلام كل الأموال لتشتري الأسلحة الأطعمة الجياد (دقة طبول المعركة)
كبير الوزراء: ملابس السادة الفخمة (دقة طبول المعركة)
الفتاة: أحلى مائة فتاة (دقة طبول المعركة)
الحاجب: فِي اللحظة الموعودة (دقات متسارعة معها يتكلم الرجل)
الرجل: يعوي الشيطان عواء الذئب، تلتهم الغيلان الأرض، من هنا مائة جارية وألف فلاح وألف صانع وألف ألف عبد، ومن مملكة الأوهام المثل ومن مملكة الأغنام المثل (تتوقف الدقات المتسارعة)
الحاجب: اختلف الشيطان والحاشية
الرجل: قتل المـلـك وكبير الجند، قطع لسان كبير الوزراء
الطـفـل: عاد الشيطان ليبذر بذرته الملعونة
كبير الوزراء: ولكل مملكة شيطانٌ
الرجل: وملوكٌ ووزراءُ وحكماءُ وعرافونَ (صمت) لكن البذرة الملعونة ارتطمت بزوجة بائع تمر أر... (يظلم المكان، ويتحدث الجميع)
ذات يوم أرادت زوجة شرطي تمرًا دون مقابل، رفض البائع، غضب الشرطي، ليلا خُطِفتْ ابنةُ البائع ليلة عرسها لتصير محظية فِي قصر المـلـك، وتؤخذ مع الجواري فِي فتح القلعة
صوت: وأبوها (بقعة ضوئية على بعض الشيوخ)
صوت: وأخوها؟ (بقعة ضوئية على بعض شباب المملكة وهم يحملون أسلحتهم)
صوت: والزوج (تتركز بقعة ضوئية على الرجل)
الرجل: أنا الحبيب الذي خطفت حبيبته
قائد الجند: أنا الموتور الذي قتل أبوه
كبير الوزراء: أنا الذليل الذي قطع لسان أبيه (يضاء المسرح، ويتقدم الرجل من الجمهور)
الرجل: ليست هذه حكاية قبل النوم
الفتاة: إنها حكاية نعيشها كل يوم
قائد الجند: لكننا أردنا أن تكون النهاية مختلفة
الرجل: حتى يكون هناك أمل
كبير الوزراء: ولقد جعلناكم القضاة
الفتاة: ففكروا
الجميع: من يستحق العقاب؟ (يتقدم الطـفـل نحو التاج ويواجه به الجمهور)
الطـفـل: من يستحق التاج؟ من يستحق التاج؟ من يستحق التاج؟ ستار
هكذا في النهاية تنكشف جميع الأدوار، ونكتشف أن المؤلف لم تعنه أي من الشخصيات، سواء الملك وملأه أو الشعب، فكل هؤلاء وأفعالهم بلا قيمة ذاتية، إنهم أنماط لشخصيات وأنماط لأفعال. حتى التعلق الرمزي لابن الملك بالعصفور الذهبي، تركه المؤلف يستدعي دلالته دون أن يشتغل عليها، تحسسًا من أن تستولي على نصه فتقلب معادلة "الرمز – الواقع" التي حافظ عليها بجدارة مثيرة للانتباه. وبكلمة إن المؤلف حرَّك نصه تحت سلطة الفكرة وجعل كل ما سواها تابع لها، فكانت هذه النبوءة كل وهم مهما بولغ في صيانته طقسيا لابد أن ينكشف، إذ إن ما يمر لا ينتهي، والماضي لا يعني العدم، وأسوار الوهم أوهى من أن تصمد للحقيقة ولو بدا أن الزمن قد تجاوزها.
(3)
التناقض:
في هذه المسرحية ذات الفصل الواحد، يؤكد لنا المؤلف أن بعض اللحظات الاجتماعية هي بذاتها دراما، وأن عبقرية الكاتب في استطاعته التقاط الجوهري منها وإعادة صياغته مخفضًا عدد شخوصها ومركزًا على أبعادها السيكولوجية ومنتقيًا اللحظات الفارقة من وقائعها. وهكذا جاءت مشاهد المسرحية الأربعة فصولا لسنة مصرية متميزة: الخريف – الشتاء – الصيف – ربيع الورد.
تدور المسرحية عبر أربعة شخوص يمثلون أسرة مصرية من الطبقة المتوسطة طالب بنهائي كلية الهندسة وناشط سياسي: "فارس" وأخته "أمل" المدرسة المخطوبة المدرس ويكتب الشعر: " وأب وأم. من داخل منزل الأسرة، وثلاثة نشطاء سياسيين آخرين جميعهم طلاب جامعيون: "هند وهادية وسامر" وشابان من شباب الميدان: "سيف وعادل" وضابط أمن دولة شاب: "كامل الليثي"، ثم شخصيات متعددة منهم الثوار والأطباء وإمام الميدان ورجال أمن..
من خلال المشهد الأول يبدأ الخط التراجيدي للنص في موقف القبض على "فارس"، لنكون أمام الطرفين الدراميين: الشباب والنظام، وإن مختزلاً في: فارس والضابط، هذا الاختزال الذي يأخذ حجمه الحقيقي في المشهد الثالث، حيث ينفتح المنزل الذي ابتدأ به المشهد الأول على ميدان التحرير، لتظهر عبقرية النص في التأليف ما بين الإبداعي والتوثيقي، على مستوى الحدث ومستوى اللغة ووصولا إلى اللحظة الحاسمة في المشهد الرابع الذي يسجل لحظة انتصار الشباب بتنحي الطاغية وتخليه عن طغيانه ليكون زواج المدرس الشاعر "خالد" و"أمل" تتويجا للمرحلة، وكأن مجرد المتغير السياسي نافذة أمل اقتصادي تسمح بتحقيق هذا الارتباط. وبين المشهد الأول والمشهد الرابع ثمة مشهدان على قدر كبير من الأهمية، ففيهما تنفتح أسرة "فارس" على الشارع حيث زملاء فارس على سلالم "دار القضاء العالي"، ليتم تحول موقف الأب بفضل قوة الرابطة الثورية بين فارس وزملائه، وتندرج جميع الشرائح العمرية في الفعل الثوري، وفي الفصل الثالث يتسع المكان أكثر حيث مركز الحدث الإعجازي/الثورة: "ميدان التحرير"..
هذا التدرج في اتساع المكان يوازيه تدرج في حجم الحدث من مطاردة جنود الأمن المركزي لمظاهرة إلى تنحي الفرعون عن عرشه، يوازيه الخروج من أزمة إتمام زواج "خالد" الذي لم يستطع أخو خطيبته أن ينجزه إلا وهو على أبواب الشهادة، وكأن شهادته جواز العبور من الأزمة الاقتصادية. وكأن المؤلف يذهب إلى أن تمكن الثورة من إسقاط الفرعون قد مكنها من إسقاط الكثير من المفاهيم التي كانت مسئولة – أصلا – عن وجود الفرعون، من السلبية عبر رذيلة الرضا، إلى الأزمات الاجتماعية التي تؤسسها الأزمات الاقتصادية، فضلا عن الحلول الفردية عبر الانتهازية والاستغلال..
لقد استطاع النص أن يوثق إبداعيا لحظة فارقة في تاريخ مصر الحديث، ليس فقط لوقائعها بل للغتها كذلك. كما تمكن من تضفير الغنائي بالدرامي، سواء عبر مختارات المؤلف من ديوانه "الحكم للميدان" أو اختياراته من أغاني "الشيخ إمام"، ليصل اللحظة بماضيها الذي شكل الوجدان الثوري عبر سنوات طوال من النضال. كما يسجل للنص قدرته في التحكم بالزمن الدرامي وضبط سرعته أو إطلاقها بحسب محتوى كل مشهد، هذا فضلا عن تأثيثه الرائع للمكان عبر المشاهد الأربعة، هذه المشاهد التي لا تحيل إلى الطبيعي بقدر إحالتها رمزيا إلى فصول خاصة بمصر خصوصية مطلقة، بدءا من خريف واقعها إلى شتاء الحدث فصيف الصمود فربيع الانتصار والتفتح: "ربيع الورد".. إنها فصول إنسانية تعبر مع المكان حدثا فحدثا من ضيق الداخل إلى اتساع الخارج وصولا إلى فضاء الحرية في الميدان.
(4)
عبقرية اللغتين
اللغة أداة وليست هدفًا، سواء في خطاباتنا الاجتماعية أو الخطابات الشعرية، فثمة ناتج نتوسل إليه بهذه اللغة، أكان دلالة أم جماليات. كون اللغة كذلك يجعلها مطروحة للانتقاء. وإذا كان غياب اللغة العامية تماما عن مسرحية "القلعة والعصفور" متناسبا مع المستوى الرمزي الذي اختاره المؤلف لتمرير وعيه بالدرامية التي تعتمل في سيكولوجية جماعته الاجتماعية، فإنه في "الجسد والنبوءة" يعمل على لغتين يضفرهما ببراعة شديدة، فلغة المسرحية هي اللغة الاجتماعية المتداولة بين الناس التي لا تكاد تختل في النص مصحوبة بكل ما يصاحبها من إيماءات وكنايات ورموز، وفي المقابل يختار المؤلف إحدى شخصياته لوظيفة المدرس وموهبة الشاعر معًا، ولا يصبر على المشهد الأول ليكتمل دون أن ينتقل بعامية المسرحية إلى فصحى إحدى شخصياتها:
خالد: هو فيه مفروض في البلد دي..؟
فارس: لازم يبقى فيه يا شاعر واللا إنت نسيت اللي انت كاتبه، تصدق النهارده كنا بنقرا حتة من قصيدتك، واصحابي مش مصدقين إنك خطيب أختي
أمل: (بلهفة) أي حتة يا فارس؟
فارس: هَذا أنينُ الجرحِ في عينيكِ مَظلمةٌ،
مِدادٌ نازفٌ، لا، لا مفر
أمل: يا ضيعتي
وسطَ المتاريسِ التي
حَطَّت على ساحِ الفُؤادِ حُصُونَها.
خالد: هُزِّي بِكَرمِ جَلالَه،
مُدِّي بِجمرِ ضَراعَةٍ قُربانَ أفئدةٍ؛
يكُن صبرٌ جليلٌ قادرٌ،
يتساقط الفِعلُ الجَلِيلُ
الثلاثة: فَيا رَفيقةَ حُلمنا، لا تَحزَنِي؛ تِلك الجراحُ وما حَوت
مَهرٌ.... دَلِيلُ مَحبَّةٍ تِيهِي عَلينا واطلُبِي مِنا المزيدَ.....
سَنَنتَظِر.
فارس: هو ده الكلام يا عم خالد.
هذا التضفير بين العامية الاجتماعية والفصحى الشعرية بجامع الثورة يخلق حالة وعي جماهيرية (الثلاثة ينشدون) وهو ما يستثمره المؤلف ليرفع العامية إلى مستواها الجمالي الموازي للفصحى ممثلاً في أغاني الشيخ "إمام". إنه اتساع من نوع آخر يمكن تسميته بما سمى به "باختين" تعدد أصوات الرواية، أعني " الهجنة اللغوية" التي تؤكد على جمعية النص، هذه الجمعية الثورية التي تلاقى فيها الجميع وذابت فيها الطبقات موحدة خلف جثامين الشهداء وعلم بلادها:
فارس: فاضل حاجة
الأم: (بلهفة) إيه يا حبة عيني (يصل عادل ومعه الإمام)
الإمام: اؤمر يا بطل
فارس: (يمد يمناه ممسكًا بها يد أبيه ويعطها للإمام) دا أبو العروسة. (وباليسرى يد خالد) ودا العريس (يفك إحدى الضمادات) ودا منديل العروس (يبدأ الإمام في إتمام مراسم الزواج، يلتف حولهم الناس، بينما يبتسم فارس، تتعالى الزغاريد، إظلام وتتركز بقعة ضوئية على وجهي خالد وأمل وهما يبتسمان ابتسامة خفيفة، تبدأ الإضاءة من أقصى المسرح على متظاهرين من مختلف الأعمار، يحركون أعلامهم في سعادة، تتحرك الإضاءة حتى تصل إلى خالد في بدلة العرس وقد أمسك بيد أمل في ثوبها الأبيض وإلى جوارهما الأب والأم، وأمام الجميع مجموعات تحمل جثامين الشهداء وقد التفت في علم مصر...)
وفي النهاية، تحضر الفصحى، ليس عبر الشاعر: "خالد"، وإنما هو صوت معلوم قوله مجهول صاحبه، يحدد الأنا ويميزه من الآخر ويفتح بوابة الأمل على الغد من المكان الجامع للأبناء الثوار الشهداء الفرسان: "ميدان التحرير":
صوت: ولأنَّ صوتي لم يزَل صوتي/ ولأنَّ صوتي لم يكُن صوتَك/ويَدَيَّ طاهِرَتانِ من ذَهَبِ المعزِّ وسَيفهِ/ ويَدَيَّ عامِرَتانِ من كَنزِ الحقيقة / فأَنا سيوفٌ في حصونٍ من أَمَل/ وأَنا الدِّماءُ الراوية / وأَنا الجراح الشافية / وأنا الأَغاني والأمانِي الطاهِرَة/ ميدانُنا تحرير. ولأنَّ جرحي لم يَزَل نَزِفا/ فَدِمِي دَمِي/ ولأنَّ رسمك لم يَزَل وسمَك/ ولأنَّ قلبَكَ لم يَزَل لَقَبَك/أبناؤنا الأبناءُ، ثوارنا الثوارُ، شهداؤنا الشهداءُ، فرساننا الفُرسانُ، ميداننا الميدانُ، ميداننا التحرير.
(5)
النهايات المفتوحة
المسرحيتان نصان مفتوحان على المحتمل، وإذا كانت الأولى "القلعة والعصفور" قد انفتحت على الأخرى كتحقق لها، فهذه الأخرى – وهي تنتهي بجثامين الشهداء ملفوفة بعلم البلاد ومصحوبة بصوت الشعر – لم تحدد نهاية النص، بل فتحته على كل الاحتمالات، الأمر الذي يجعل النصين معًا صالحين لقراءة واقع الثورة المصرية وانفتاحها على كل الاحتمالات.. إنها صدقية وعي الأديب، والمدهش الذي يؤكد على صدقية وعي الأديب، أن ما تلا إسقاط الفرعون يحاول – الآن – استعادة القلعة وإخراج الشعب مرة أخرى، واختطاف الفتاة مرة أخرى، وإعادة التاج بنفس الشروط القديمة، والأدهى برعاية "شيخ التجار"، فما يحدث في واقعنا المصري الآن هو – تحديدًا – ما وصفه المؤلف في مسرحية "القلعة والعصفور" قبل الانقلاب. وما تزال شخصيات مسرحية "الجسد والنبوءة" في ميدان التحرير يرددون شعرها وأغانيها مطالبين بتحرير العصفور..
************
أ.د.محمد فكري الجزار