2014/08/04

«ناسى حاجه».. روح فولاذية الذاكرة للشاعر السعيد المصري... بقلم/ ياسر المحمدى




«ناسى حاجه».. روح فولاذية الذاكرة
للشاعر السعيد المصري
بقلم/ ياسر المحمدى


.........



(1)
«ناسى حاجه»، الديوان السادس للسعيد المصرى بعد: «عيَّل وجميزه عجوزه»، و«روح برَّة الزنزانه»، و«وردة فى قرطاس سلوفان»، و«وردة بتنزف ريحة موت»، و«جايز ترتاح.. جايز»، الديوان يمثل إضافة حقيقية فى مسيرة الشاعر الذى يعمل على مشروعه الشعرى فى صمت.
(2)
بعد الانتهاء من قراءة ديوان «ناسى حاجه»، للشاعر السعيد المصري، تكتشف أنك انتقلتَ من عالم التفاصيل الصغيرة، إلى عالم من الأفكار والأسئلة الوجودية الكبيرة، انتقلت من دقائق يومية ومشاهد حياتية مقطعة، إلى عرض بانورامى تم اختيار مادته بعناية لحياة إنسان كاملة، تنتقل من الواقعى والمعاش واليومى والمهمش، إلى عالم موازي/ برزخى تتم فيه استعادة مواقف الحياة وفق قوانين جديدة، ما بين كثافة التفاصيل الواقعية وانعتاق الذات من تفاصيل العالم المادى تتابع المشاهد الشعرية فى مقاطع طويلة وأخرى قصيرة، كل منها يشع دلالات متعددة، سواء على مستوى القراءة المنفردة للمقطع الشعرى أو على مستوى قراءته فى السياق العام للديوان، تتحد هذه المقاطع مكونة حكاية مشاهدها جميعا تتطابق عند نقطة مركز ويأخذ كل مشهد فى اكتساب دلالته الخاصة كلما بعد عن هذا المركز، إن أردنا فهى حالة من التذكر فى لحظة فاصلة ما بين الحياة والموت، أو لحظة استعادة كاملة للحياة فى عالم آخر يصبح عندها «ناسى حاجه»، ليس ديوان شعر بل صحيفة أعمال، نجد المقطع الشعرى الأول فى الديوان: «وانا زى موميا ممدده.. فى تابوت حجرى.. ويّا أربع قدور فخار.. فيهم مصارين مملحه.. وكاسين رخام.. لسه ريحتهم بيره حاميه.. وطبق خشب جميز.. مليان قمح منبّت.. وف إيدى زهرة لوتس دبلانه.. وعلى صدرى.. تميمة «عين حورس».. وقلادة جعران جرانيت.. ولفايف بردى.. متروسه متون لـ«أوزيـر»، ثم يتكرر التناص الذى استخدمه الشاعر فى مطلع المقطع الشعرى الأخير من الديوان «التحيات لك.. يا اللى فى السما والأرض.. جيتك من ساحة العدل.. وانا طاهـر.. طاهـر.. طاهـر»، وهو تناص بتصرف من كتاب الموتى، ما بين هذين المقطعين _اللذين يمثلان الغلاف الحقيقى للديوان _ تأتى مقاطع الديوان الأخرى متناولة فى طياتها قضايا حياتية مختلفة، تتكامل المقاطع فيما بينها مع المقطعين السالف ذكرهما للتأكيد على أن هذه التفاصيل التى نعرفها جيدا لا تخضع هنا لمعرفتنا المادية عن طريق الحواس، وإنما هى معرفة هنا تقوم بها حاسة أخرى باطنية؛ فبعد عرض مقاطع مختلفة من حياته؛ هذه المقاطع التى يبدأ الكثير منها بصيغة استفهام إما للنظر وإما للتذكر أو غير ذلك وكأن آخر يمسك الشاعر من يده ويدور به على مواقف حياته، أو أن هذا الآخر يقوم بعرض شريط تسجيلى لحياة الشاعر، يسبقها مقطع تعقب ملك الموت له فى صورة مخبر، «مين ده.. اللى ماشى ورايا.. كإنه خيالى؟! يكونش مخبر.. مزقوق من نسر ودبورتين؟!»، يمتد المقطع إلى أن يصل فى النهاية، «أعفق فى طوقه.. ـ ماشى ورايا ليه؟!.. مين زقّك علىَّ؟!.. إنطق لا اخلّص عليك.. يجاوبنى بكل هدوء.. اتوضا وصلى.. وعشان ضيق الوقت.. شقّر على كل صحابك.. فى صور الألبوم.. ودّع كل قرايبك!»
أما عن المقاطع ذات صيغ الاستفهام، منها: «مش دا العكاز.. اللى بيأنجش.. صوابع جدك خمس مرات.. لاجل يبوس بشفايف روحه.. حصيرة الجامع»، «مش دا صباع الطباشير.. اللى بيرفَّس فى جِناب السبوره.. ويخبّط.. على صورة المماليك.. ورفاعه ومحمد عبده.. ع الفاعل.. والمفعول.. والفعل.. وخريطة الوطن العربى.. وإزازة أُكسيد الكبريت»، وكذلك «مش دى العصايه العوجه.. اللى بيطفّش بيها أبوك.. الغِرْبَان والبُوم.. من على كتف التوته المايله.. ويعدى ماسورة الترعه.. حاضنها بباطه»، وفى نهاية هذا المقطع يقول: «دلوقتى بيخرج.. مسنود على عودها الخرزان.. م الدار للغيط.. م الغيط للجامع.. م الجامع... للقبر!»، وهو فى ذلك يشير إلى حياة أبيه الأخروية وفى عالمه الموازى الذى يقف الشاعر على مشارفه فى نوبات من الحضور والغياب، ثم ينتقل الشاعر إلى مقطع طويل، ترى فيه الذات الأخروية نهاية الذات الدنيوية وتقوم بتوزيع الرحمات عليها « بلاستر.. وكيس بينقط بول.. وبقعة دم على ملايه.. وكوباية ينسون.. بتنهنه ع الكوميدنو.. وأمبول سيفوتاكس.. مزرَّق فخد يمين.. وبرتقانايه وسكينه.. ومخده قطيفه.. وشريط لايزكس.. ناقص حبّايه........... «وعبد الباسط».. بيرتل سورة «يوسف».. وأنت بتفرَّق روحك.. رحمه ونور.. على روحك!»، كما يزاوج الشاعر فى مقاطع أخرى ما بين لحظات غيبوبته وإفاقته فينتقل ما بين مشهدين واقعيين فى مكانين وزمانين مختلفين فى مقطع واحد؛ وهذان المشهدان يخضعان لتوجيه هذا الآخر الذى يعرض أمام عينيه شريط حياته، يقول: «كل دا شوف.. كنت محوّشه ف روحك.. دلوقتى..بتـ ـفـر فـ طـه.. من كيزان ضلوعك.. حبايه.. حبايه..حبايه»، ثم تتابع المشاهد ومعها يتتابع أخذه لأقراص العلاج ومع كل قرص تخرج الروح الشاعرة ببطء شديد، يقول: «شُفت الحبايه دى.. اللى نازله تحبى ع الرصيف.. خدت بالك.. م الواد اللى خبَّاها بالجزمه.. ووطى أخدها.. ومسح دموعها بكم قميصه.. ودراها فى جيبه.. ومشى يغنى.. كإنه لاقى لقيّه!»، وفى مقطع آخر «شايف الحبايه دى.. اللى نزلت تتدحرج.. وسط أسفلت الشارع.. خدت بالك.. من كاوتش الميكروباص.. اللى فاداها.. وغمز لها بعيون دبلانه.. كإنه بينه وبينها عِشره.. بس الأتوبيس الهلكان.. ما رحمش الغنوه.. اللى كات لسه بتتولد جواهم!»، فمع كل قرص نجد مشهدا جديدا يربط فيه الشاعر ما بين انفلات روحه إلى عالم آخر وما بين مشهد واقعى، يصل السعيد المصرى بعد رحلة شاقة يعبر فيها العالمين، المادى والروحي، فى حالة من الحضور والغياب حتى آخر مقاطع الديوان، يصل متخلصا من كل زينة وبهرج وضع على أرصفة الحياة، يقول: «ما سرقتش.. ما خنقتش روح.. ما خونتش أعمى.. ولا مديت مظلوم.. ولا كَرَشت جعان.. من على عتبة دارى.. ما قطعتش الطريق.. على بنت حلوه.. ما كدبتش على كاهن.. ما شهدتش زور.. جيتك.. من ساحة العدل.. وانا طاهـر.. طاهـر.. طاهـر».
(3)
يعتمد السعيد المصرى على المفارقة لتوليد دلالات جديدة يشحن بها نصوصه الشعرية، تتولد المفارقة عند الشاعر نتيجة انتقاله من الواقعى والمحسوس إلى الغيبى وغير المرئى فى استدراج شديد الذكاء، يصنع السعيد المصرى علاقات تجاور، معتمدا فيها على عين الكاميرا تاركا للقارئ هو الآخر مساحة من التخيل ليكمل من خلالها المشهد، كما تشارك هذه المفارقات على مستوى البناء العام للديوان فى تشكيل الرؤية العامة، أول هذه المفارقات هى العنوان «ناسى حاجه»، ولنا أن نرصد بعض المستويات لفهم دلالة العنوان، فإذا اعتبرنا أن الشاعر تدور مشاهداته فى عالم آخر وأن من يقوم بعرض هذه المشاهد له هو آخر من ساكنى هذا العالم، فإن «ناسى حاجه» تصبح هنا استفهاما استنكاريا من هذا الآخر بعد عرضه لحياة الشاعر ، وكأنه يقول له هذه حياتك كاملة كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وعندما نخرج إلى السطح قليلا مستعرضين كمَّ المشاهد الحياتية التى يرصدها الشاعر فى ديوانه ويقدمها لقارئه، يصبح «ناسى حاجه»، وكأنة استفهام من الشاعر لقارئه، وكأنه يقول هل وضعت لك الصورة كاملة أم لا ؟!، كما أن أحد مقاطع الديوان تُعبر عن هذا النسيان بمفهومه المعروف؛ يقول«ناسى حاجه.. وماشى أقلب فى جيوبى.. وامسح بكمى شبورة نضارتى.. والعرق اللى ناشع.. من كل حته فى روحى.. باعتذر.. لكل اللى بيخبطوا فيا»، يقول فى أحد المقاطع الشعرية «كل يوم.. يرمى الفكه.. اللى بتشخشخ فى جيوبه.. فى صندوق جامع تحت الإنشاء.. ويسأل روحه.. نفس سؤال امبارح.. يا ترى رصيدى.. بقى كام دلوقتى؟»، حيث تبرز المفارقة واضحة ما بين أن تكون صندوق الجامع حصالة دنيوية وأخروية فى نفس الوقت، ومن المقاطع التى تبدو المفارقة فيها واضحة «مين ده.. اللى ماشى ورايا.. كإنه خيالى؟! يكونش مخبر.. مزقوق من نسر ودبورتين؟!»، حيث نجد فى نهاية المقطع أن الشخص الذى يتعقبه هو ملك الموت، كما تصنع المقاطع بصيغتها الجزئية فى تقاطعها مع الحالة العامة للديوان مفارقات عديدة، يستخدم السعيد المصرى هذه المفارقات بما تحمله فى داخلها من طبيعة المقابلة بين الأشياء المتنافرة، وجمعها فى صورة واحدة ليسلط الضوء على قضية حياتية مستثيرا معه القارئ من خلال التفاصيل البسيطة للتفكير فى قضايا عامة وإنسانية، كما تأتى بعض قصائد ديوان «ناسى حاجه»، للسعيد المصرى محملة بالرمز المباشر حيث يذكر أسماء شوارع أو أشخاص تمثل رموز للنضال والحرية والثورة، فالديوان هو حالة تسامى نجح فيها الشاعرعلى أن يسلط عدسته ورؤيته ليولد من كثافة الأشياء والتفاصيل المادية الصغيرة والبسيطة عالما أرحب يشبه بتعريض الثلج لدفء الشمس فيتخلص عندها من جموده متحولا إلى بخار محلق حر وطليق من قيد صورته الصلبة والكثيفة، وهذا ما وعد به الشاعر فى تصديره «خلف أشياء بسيطة.. أخبئ نفسى لتجدنى، وإذا لم تجدنى، ستجد الأشياء».لـ«ريتسوس»، «كتب اسمه على الحائط، كى يتذكر العابرون أنه مر من هنا، كتب اسمه وذهب، وحين عـاد.. حاول عبثاً أن يتذكر.. من هو الاسم المكتوب على الحائط».لـ«وديع سعادة».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق