2014/08/17

هشام الجخ وإعلام عصر الجماهير الغفيرة... بقلم الشاعر/ محمود الحلواني




هشام الجخ وإعلام عصر الجماهير الغفيرة
محمود الحلوانى



من المفارقات الكاشفة ، التي لابد من وضعها فى الحسبان عند التصدي لما اعتبره البعض " ظاهرة هشام الجخ " أنه حقق ما حقق من شهرة وانتشار عبر وسائل الإعلام الجماهيرية وخاصة التليفزيون، وبين الجماهير في مدرجات الجامعة وبرامج المسابقات و الحفلات التي تقيمها له " بتذاكر دخول " بعض الأماكن المعنية بالترويج والتسويق الثقافي مثل ساقية الصاوي وغيرها ، وأنه على الرغم من كونه شاعرا لم يصدر ديوانا واحدا إلى الآن !
لذلك يخطئ من يتناول هشام الجخ بوصفه ظاهرة تنتمي للأدب، على الرغم من إن مجال اشتغاله هو الشعر.
كذلك يجانبه الصواب كثيرا من يتصدى لتجربته بأدوات النقد الأدبي وحدها وإن صلحت قصائده لأن تكون مادة للنقد .
ومن قبيل الاستسهال أيضا النظر إلى "هشام الجخ" بوصفه ظاهرة إعلامية، وهذا ليس صحيحا بالمناسبة، دون النظر إلى طبيعة الجمهور الذي يقبل عليه ويطلبه، وإلى طبيعة الوسيلة الإعلامية التي أسهمت في نجوميته . وليس من قبيل التزيد استدعاء عناصر أخرى للنظر بمساعدتها في مسألة الجخ ، مثل فن التمثيل، والإلقاء ، وكيفية صناعة الكراكتر، وآليات التأثير فى الجماهير.
فمن الناحية الأدبية لايصمد هشام الجخ كثيرا أمام الفحص النقدي، فقصائده شديدة التواضع ، لا تقول أكثر مما يعرفه جمهوره ، قدرته على التخييل والتشكيل، وإقامة عوالم جديدة ومدهشة، واجتراح رؤى خاصة للوجود أو للذات تكاد تكون منعدمة، هذا فضلا عن افتقاده لمفهوم البنية، ووقوعه الدائم في فخ التكرار المجاني، الذي تجره إليه الموسيقى، فيستهلك قدرا كبيرا من اللغة ومن الموسيقى ، دون إنتاج شعري يوازى ما استهلكه.
هشام الجخ صوت مستعار من تقاليد شعرية راسخة ، وأصوات سابقة مختلفة، دعك من سرقاته لبعض أشعار الآخرين بشكل حرفي وكامل ، وهو ما ثبت وصدر بشأنه حكم محكمة في القضية التي رفعها ضده الشاعر عبد الستار سليم، واتهمه فيها بسرقة أشعاره في فن الواو، وحكمت فيها المحكمة لصالحه وتغريم الجخ . هذه موثقة ، ومفروغ منها، إنما ما أقصده هنا هو أشعاره الأخرى التي تزدحم بأصوات شعراء آخرين وتحمل ملامحهم ، والتي يمكن للفحص النقدي أن يتعرف فيها على أصوات فاروق جويدة ونزار قباني، وغيرهما، كما سيتعرف بالضرورة على تقاليد القصيدة العربية التقليدية التي تحمل بصمات كل من كتبوها ، وتغيب عنها شخصية الجخ الذي أعاد نظمها دون أن يترك على جسدها بصمة تخصه ، أو تضعه بين من أسهموا في كتابتها.
تفتقد قصيدة هشام بشكل كامل إلى اللمسة الشخصية، فلا يمكن نسبتها له وإن كان هو من كتبها أو نظمها، كما تفتقد إلى الذاتية التي تميز ذاته وتجربته الشعرية عن ذوات الشعراء الآخرين وتجاربهم، الأمر الذي يضعه في خانة المحاكاة ، ليست المحاكاة بالمفهوم الأرسطي بالتأكيد ، والتي لا تعنى محاكاة ماهو كائن بالفعل ، إنما محاكاة ما يمكن أن يكون، كما لاتحقق قصائده أيضا المفهوم التقليدي للمحاكاة، أو ما فهمه البعض عن أرسطو من إن المحاكاة هي محاكاة الواقع والكائن بالفعل ، محاكيات الجخ هي محاكيات من الدرجة الثالثة أو الرابعة ، حيث تقوم على محاكاة النماذج الشعرية السابقة ، الشائعة و المستقرة ، الأمر الذي يمكن أن يخرجها عن مفهوم الإبداع، في المطلق، والإبداع الشعري بوجه خاص، والذي هو في جوهره عملية خلق خاصة وجديدة ، على مستوى صياغة الصورة الشعرية ، كما على مستوى ما تطرحه القصيدة من رؤى طازجة للعالم والوجود، من منظور ذاتي.
إن نظرة سريعة إلى إنتاج هشام الجخ المكتوب بالفصحى وبالعامية، يمكنها أن تؤكد ما ذهبنا إليه ، يمكنك أن ترجع مثلا إلى قصيدته " التأشيرة " وهى واحدة من قصائده الشهيرة ، وكذلك قصيدته المشهورة أيضا " مقطع رأسي من ميدان التحرير " ماذا فيهما ؟ يقول في الأولى :
"أسبح باسمك الله، وليس سواك أخشاه/ وأعلم أن لي قدرا سألقاه .. سألقاه/ وقد عُلمت في صغرى بأن عروبتي شرفي وناصيتي وعنواني/ وكنا فى مدارسنا نردد بعض ألحان/ نغنى بيننا مثلا : بلاد العرب أوطاني/ وكل العرب إخواني/ وكنا نرسم العربي ممشوقا بهامته/ له صدر يصد الريح إذ تعوى/ مهابا فى عباءته، وكنا محض أطفال، تحركنا مشاعرنا/ ونسرح في الحكايات التي تروى بطولتنا، وأن بلادنا تمتد من أقصى إلى أقصى، وان حروبنا كانت لأجل المسجد الأقصى، وأن عدونا صهيون شيطان له ذيل/ وأن جيوش أمتنا/ لها فعل كما السيل" .
إلى أن يكتشف عندما يكبر بأن الصورة ليست كذلك، فلا يستطيع أن يبحر من بلد عربي إلى آخر، لأنه لا يحمل تأشيرة ، فيروح يتحدث عن الفرقة والانقسام ، ويلعن الحكام العرب :
" لماذا الفرقة الحمقاء تحكمنا؟ / ألستم من تعلمنا على يدكم أن اعتصموا بحبل الله واتحدوا؟!/ لماذا تحجبون الشمس بالأعلام/ تقاسمتم عروبتنا ودخلا بينكم صرنا كما الأنعام/ سيبقى الطفل فى صدري يعاديكم/ تقسمنا على يدكم فتبت كل أيديكم". ثم يروح يؤكد هويته العربية بتنسيب نفسه إلى بعض البلاد العربية، حسب ما أملته عليه الموسيقى والقوافي ، متجاوزا حتى اختلاف الديانة و تناقضات المذاهب والطوائف تاريخيا ودينيا :
أنا العربي لا أخجل/ ولدت بتونس الخضراء من أصل عماني/ وعمري زاد عن ألف وأمي لم تزل تحبل/ أنا العربي فى بغداد لي نخل/ وفى السودان شرياني/ أنا مصري موريتاني وجيبوتي وعمّاني/ مسيحي وسني وشيعي و كردي ودرزي وعلوي/ أنا لا أحفظ الأسماء والحكام إذ ترحل" .
أدبيا يعتمد الجخ على مغازلة الجمهور العام ، بتبني رسائل ذات مضامين ، تتوافق مع نوازع وميول وأذواق وخيال هذا الجمهور العام ، ولا تصطدم معه، يقول له ما يعرفه، في العموم، ودون انشغال بتفاصيل، عبر أشكال مستقرة لا تعرقل تلقيه، ولا تدفعه إلى التفكير.
يلجأ الجخ إلى استعارة القناع الديني، والوطني، والعاطفي ، مستغلا ما لهذه الأقنعة والموضوعات من قدرات عاطفية، طبيعية، وربما بدائية ، على إثارة تعاطف الجمهور العام واجتذابه، مستعيرا أيضا قناع المحرض على الثورة، بما له من جاذبية خاصة لدى الجماهير، التي تعيش حالة رفض واحتجاج دائمة في مواجهة أنظمتها الفاسدة و القمعية ، فتتلقف الجماهير هذا الخطاب/ القناع الذي ينتمي إلى الشعار بأكثر من انتمائه للشعر، ليس لأنه يقول لها شيئا جديدا، أو يكشف عن وجه مختلف من أوجه صراعها ومعاناتها في ظل الأنظمة الحاكمة، إنما لأنه يقول بالضبط ماتعرفه، ولا تمتلك الأداة لقوله، بقول آخر تتلقاه الجماهير وتردده كنوع من التنفيس العاطفي العام، دون أن تنتبه إلى أن هذا الخطاب التحريضي ذاته، يعمل ، من حيث لا تدرى، على تفريغ شحناتها من الغضب أولا بأول ، حيث يشعرها بنصر زائف في معركتها، وبأنها قد انتقمت لنفسها من عدوها، فتعود إلى مواقعها هادئة ، منتفخة بالانتصار ، تماما مثلما تقوم النهايات السعيدة في السينما التجارية، أو المسرحيات الرديئة، بتفريغ شحنات التوتر لدى مشاهديها، بعد أن يكون صانع الفرجة قد أجاب عن أسئلتها، متجاوزا كل ما من شأنه تعكير صفو هناءتها واستقرارها، ودون أن تنتبه هذه الجماهير أيضا إلى أن الفيلم، أو المسرحية، أو الشاعر هنا قد قاموا بعزلها، وتحييدها، وتسكينها ، وانفرد كل وسيط منهم بسلطة مطلقة، الأمر الذي يكرر ويعيد إنتاج البنية الهرمية والقمعية ذاتها التي تكرس لأن يبتلع الزعيم أو الحاكم الفرد، أصوات الجماهير، وأن يطمس وجودها لحساب وجوده، ثم تجده فى التحليل الأخير كما فى حالة الجخ لا يقدم خطابا شعريا متماسكا وجديدا، أو عميقا، إنما يقدم قناعا ثوريا عاطفيا ، فارغا من القيمة الشعرية ، مرتبكا ، يختبئ وراء الشعار الذي يبدو من النظرة الأولى براقا وثوريا.
يقول الجخ فى قصيدته المشهورة أيضا " مقطع رأسي من ميدان التحرير"
" خبـئ قصائدك القديمة كلها / مــزق دفاترك القديمة كلها/ و اكتب لمصر اليوم شعراً مثلها/ لا صمت بعد اليوم يفرض خـوفه/ فاكتب سلام النيل مصر وأهلها/ عيناك أجمل طفلتين تقرران بأن هذا الخـوف ماض و انتهي/ كانت تداعـبنا الشوارع بالبـرودة و الصــقيع و لم نفسر وقتها/ كنا ندفئ بعضنا في بعضنا و نراك تبتسمين ننسي بردها/ و إذا غضبتي كشّفت عن وجهها و حياؤنا يأبي يدنس وجهها/ لا تتركيهم يخبروك بأنني متــمرد ، خـان الأمانة أو سهي/ لا تتركيهم يخبروك بأنني أصبحت شيئا تافــهاً و موجها/ فأنا ابن بطنك، و ابن بطنك من أراد و من أقـال و من أقر ومن نهي/ صمتت فلول الخائــفين بجـبنهـم. و جموع من عشقوك قالت قولها".
ماذا تقوله هذه السطور، وماذا يمكن أن تنقله لقارئ منتبه، عزلها عن سياقها التمثيلى، ونافذتها الجماهيرية المرئية والمسموعة، غير أنها سطور مرتبكة وملفقة ، لا جامع بينها غير قواف مقحمة أيضا، دفعت إليها الموسيقى، بغير ما انتباه يقظ لنسيجها الداخلي المهلهل، رغم قصرها، ودونما إدراك لضرورة انسجام معانيها، وأسطرها وترابطها في نسق شعري حاكم، يؤدى بعضه إلى بعضه.
فهي لا تحسم في البداية أمرها ؛ هل هو خبئ دفاترك القديمة أم مزقها ؟ على الرغم من الفارق الكبير بين الأمرين، حيث يحمل الأمر الأول إمكانية استعادة هذه الدفاتر المخبأة ، مرة أخرى ، في حال تغيرت الظروف، وهو مالا يحمله ألأمر الثاني القاطع والبات ، والذى يقطع الطريق تماما أمام استعادة هذه الدفاتر القديمة .
لايلتئم نسيج هذه القصيدة حول تجربة شعورية أو رؤية متماسكة ، على عكس ما تحاول أن توهم به، وهو ما يوقعها في الكثير من التناقض على مستوى علاقات أسطرها الداخلية ببعضها البعض ، مثلا : كيف يستقيم قوله : " لا تتركيهم يخبروك بأنني متــمرد ، خـان الأمانة أو سهي/ لا تتركيهم يخبروك بأنني أصبحت شيئا تافــهاً و موجها" مع قوله فى السطر التالي مباشرة : " فأنا ابن بطنك و ابن بطنك من أراد ومن أقـال و من أقر ومن نهي!! ؟ وكيف يستقيم هذا الطلب أيضا فى ظل السطر التالي أيضا والذى يقول " صمتت فلول الخائــفين بجـبنهـم و جموع من عشقوك قالت قولها"!!؟ فإذا كانت فلول الخائفين قد صمتت ، وجموع العاشقين قالت قولها فما معنى " لا تتركيهم !!؟ وماذا تعنى إضافة " بجبنهم " إلى " صمتت فلول الخائفين !!؟ كذلك ماذا يعنى قوله " لا صمت بعد اليوم يفرض خـوفه" أم تراه يقصد " لا خوف بعد اليوم يفرض صمته " حيث يخبرنا المنطق البسيط بأن الخوف هو الذي يفرض الصمت وليس العكس ، وما معنى " فاكتب سلام النيل مصر وأهلها" فإذا تغاضينا عن ركاكة الصياغة وغموضها ، فهل هذه الدعوة / الاقتراح هي البديل الثوري الذي يطرحه الشاعر بعد تمزيق الدفاتر القديمة ؟ أي سلام هو؟! وأي رؤية يطرحها الشاعر للواقع أصلا فى هذه القصيدة ؟ هل يمكن اعتبارها رؤية رومانسية قاصرة للواقع تكرس للاستقرار، وتعلن انتهاء الثورة واستتباب الأمر خاصة بعد قوله " فأنا ابن بطنك و ابن بطنك من أراد و من أقـال و من أقر ومن نهي" وبعد تلك الاستعارة الغريبة، والناتئة الذي جاء بها من قاموس الرومانسية " عيناك أجمل طفلتين تقرران بأن هذا الخـوف ماض وانتهي" ؟ سطر يدعونا لأن نسأل: من مصر هذه التي يخاطبها في القصيدة أيضا بقوله " وإذا غضبتي" فهل هناك احتمال ألا تغضب، خاصة وأن القصيدة تحاول أن توهم بأجواء ثورة غضب ؟!! إنها صور فارغة لا تعنى شيئا على الإطلاق، حتى مصر نفسها لم تحضر، هي مجرد إشارات تفشل فى بلورة أى صورة قريبة أو حتى بعيدة لمصر، ثم إلام يشير الضمير فى قوله " كشفت" ـ بتشديد الشين ـ وإذا غضبتِ كشّفت عن وجهها و حياؤنا يأبي يدنس وجهها" بحثت في القصيدة فلم أجد مشارا إليه ! هو كلام وخلاص .
ولكن لماذا يحتل شعرا بهذا الضعف تلك المكانة ، التي يحتلها لدى الجماهير، ويحتفي به التليفزيون كل هذا الاحتفاء ، ويدفع بعض النقاد إلى التغزل فيه أمام الكاميرات، خشية من الجماهير وتزلفا لها! ؟
أشرت فى بداية هذا المقال إلى أن النظر إلى "هشام الجخ" بوصفه ظاهرة إعلامية، يعد نوعا من الاستسهال ؛ حيث لا يشكل " الجخ " حالة خاصة ومتفردة ، يمكن قياسها كنموذج مختلف ومنفصل عن التوجه الإعلامي السائد، بل يمكن اعتباره مادة إعلامية ، لها أشباهها ونظائرها، ، فيمن يقبل عليهم الإعلام ويقوم بترويج بضاعتهم وتسويقها في كل المجالات الأخرى ، تلك البضاعة التي تتوافق مع توجهات الإعلام الكلاسيكية التجارية، الذي اتسع أمامه السوق، في "عصر الجماهير الغفيرة" ذلك العصر الذي رصد سماته د. جلال أمين في كتابه الذي يحمل الاسم ذاته، والتي من بينها تراجع الثقافة الرفيعة والجادة ، أمام اتساع السوق ، وما يؤدى إليه هذا الاتساع بالضرورة من انخراط وسائل الإعلام، والنشر في الإنتاج الثقافي الواسع، الذي لابد أن تتم التضحية فيه بالذوق الرفيع، والتضحية كذلك بالكيف من أجل الكم، سعيا للربح ، وهو ما يدفع هذه المؤسسات إلى إنتاج وتسويق ثقافة متوسطة، وسطحية تستجيب للقاسم المشترك الأعظم بين جمهور غفير من الناس، بغض النظر عن مستوى القيمة التي تقدمها، ومن ثم فإنها تقوم بتصميم رسائلها، وتصنيع مادتها، أو اختيارها وفقا لمتطلبات السوق " والجمهور عاوز كده " . لذلك تعلى هذه الوسائل ، خاصة التليفزيون، من شأن المثير والطريف والغريب من الأخبار والموضوعات والشخصيات، لترويج بضاعتها وتسويقها من ناحية ، ومن ناحية أخرى للسيطرة على هذه الجموع وضبط أذواقها وخلق كتلة متجانسة تستجيب للضبط والسيطرة عليها من ناحية أخرى .
يشير جلال أمين أيضا إلى أن الجمهور الذي يطلب السلعة لابد أن يؤدى إلى تغير طبيعة السلعة ، وأنه مع اتساع فرص التعليم فى مصر بعد ثورة يوليو ، مع تدنى مستواه ، وفى ظل تغير تركيبة الطبقة الوسطى في السبعينيات، اتسع الطلب على مثل هذه الثقافة ، غير المتعمقة، أو "اللاثقافة" والتى لاتقدم أفضل الأشياء وأعمقها وأنبلها وأجملها أو أكثرها ذكاء، إنما تقدم أكثرها استجابة للغرائز الدنيا والسطحية.
لهذا سادت التفاهة وبرامج التسلية وأفلام ومجلات الجنس والمخدرات والمنوعات، وبرامج المسابقات ، وطردت العملة الرديئة العملة الجيدة من السوق ، وهو ما أحسب أنه السياق الذي يمكنه أن يفسر لنا ظاهرة انتشار أشعار هشام الجخ، رغم ضعفها، جماهيريا وإعلاميا، والذي يمكن وضعها جنبا إلى جنب مع بروز شخصيات أخرى لا لقيمة تحملها ، ولكن لأنها تحمل شيئا من الجذب، يصلح لأن يكون سلعة تقبل عليها الجماهير. وهنا تأتى موهبة هشام الجخ التي نعترف له بها، وهى التمثيل ، وقد استطاع أن يجعل من أشعاره بفضل أدائه التمثيلي لها سلعة جاذبة للجمهور، وهو الشيء المطلوب ليقبل عليها التليفزيون ويعيد تدويرها ، الأمر الذي يترتب عليه من ناحية أخرى أن يظل هشام يكتب بانتظام ، يقدم إنتاجا بالجملة ، ليلبى حجم الطلب عليه ، ويضمن ظهورا دائما على شاشات التليفزيون، مستغلا إغواء الصورة وقدرتها على التأثير، تلك التي يمنحها له الحضور الجسدي، والصوتي، التمثيلي ، على الشاشة وأمام الجماهير ، الأمر الذي لا يوفره له الكتاب المطبوع ، والذي يعلم هشام أنه سيجرده من موهبته ، و يضعه وجها لوجه أمام العقل الناقد، الذي سرعان ما سيكتشف ضعف ما يقدمه وعدم استحقاقه .
لهذا لم يقدم هشام إلى الآن على طبع قصائده في كتاب، فأين يذهب بتهدجات صوته، وتموجاته ، حاملا انفعالاته ما بين الأسى والفرح ، ما بين بكائه المكتوم وتهكمه ، وتصميمه ، أين يذهب بالتماعات عينيه، وتطويحات يديه، ومغازلته للجمهور قبل وأثناء إلقاء قصائده ، وهى أسلحته الحقيقية فى غزو انفعالات الجمهور والتأثير عليه !؟
أنا شخصيا لا أصدقه، أستبين حجم الصنعة والتصنع في إلقائه وتمثيله ، أعرف أنه لا يقول شيئا ينتمى للشعر حين يغمض عينيه بأسى ليقول: " شعور سخيف/ إنك تحس بإن وطنك شيء ضعيف/ صوتك ضعيف/ رأيك ضعيف/ إنك تبيع قلبك وجسمك/ وإنك تبيع قلمك واسمك/ ما يجيبوش حق الرغيف
ولكن الجماهير تصدقه.
كان سقراط يتجول في شوارع مدينته أثينا ، يحث الناس على ألا تستلم للرأي الشائع والسائد، يدفعها نحو التفكير ومناقشة كل ما يعرض عليها من أمور، كما كان يرفض الديمقراطية الشعبية رفضا قاطعا، ويرى ضرورة أن يتولى الحكماء الحكم، فهل كان يقرأ المستقبل، ويرى بعينيه عصرنا " عصر الجماهير الغفيرة " والتليفزيون .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق