2014/08/22

ديوان الفتافيت للشاعر مسعود شومان... هجرة المفردات جماعات وفرادى... بقلم/ ياسر المحمدي




ديوان الفتافيت للشاعر مسعود شومان
هجرة المفردات جماعات وفرادى
بقلم/ ياسر المحمدي


مسعود شومان

تتكون منظومة التفكير لدى الفرد والمجتمع عبر الطبيعة التراكمية لهذه الأفكار وما ينشأ عنها من العلاقات ذات النمو المستمر والمتحول،فكل لحظة تمر في الزمن الذي نقيسه بساعتنا اليومية تستقر في كيان الفرد أو المجتمع على السواء مكونة انطباعات أولية تتحول إلى عادات وممارسات مع مرور الوقت،تنتقل التصورات في علاقة تبادلية ما بين العقل الفردي والعقل الجمعي متجسدة في الواقع ومحددة الوضع الآني لكلاهما،هذه التصورات التي تسهم _أيضا_ في تحديد وضعيتهما في المستقبل،تهاجر الذكريات الصغيرة والتجارب والمفاهيم في إثر انبثاقها من عالم المثل إلى الواقع وتتحد مكونة قواعد ومفاهيم عامة وصورا كلية تأخذ حيزها من الوعي الفردي والجمعي،في هذا الصراع الدائم ما بين عالم المثل والواقع تنتصر تصورات وتنهزهم أخرى،وهكذا في تكرار موجي ما بين القطبين الواقعي والمثالي،لكنه وفي أثناء هذه الحركة البندولية ثمة تصورات جديدة تنجح في الانفصال بكينونتها وتغيير طبيعة هذه العلاقة،يحدث ذلك على المستوى الذاتي بادراك هذه التصورات لوعيها وحركتها على أقل تقدير،وهو ما يتفق مع الطبيعة الانتقائية للفن،إن العين تُصور والعقل يَتصور ويُصور،فالحس يستقبل الأشياء الطبيعية في نفس الوقت الذي تستقر هذه الأشياء في الإدراك الواعي والباطن_معا_ آخذة صورة ذهنية قابلة للتطور في وضعها هذا،يمثل الشاعر/الفرد أحد لحظات الوعي للعقل الجمعي على المستوى الفردي،حيث ينفلت من منظومة الواقع واللغة بتداعيهما الحر واضعا كلاهما في لحظة الإبداع تحت السيطرة،منتقيا ما يريد من المشاهد الواقعية والمفردات اللغوية ليصنع كيانا جديدا هو قصيدته،ينقلب الوضع في هذه الحالة،حيث تتحول منظومة اللغة إلى مجرد نقطة في عالم الشاعر والذي يصبح بدوره الوعي الجمعي للغة وإن كانت هذه اللغة هي قاموسه الخاص،إنه يُنتِج المفردات والصور بطبيعتها البسيطة والمركبة ويوجهها خارجة من نظامه التمثيلي/عالمه إلى الوجود مرة أخرى بصفتها عالم ونسق يفسر نفسه،وتأخذ هذه الصور والأنساق موضعها وفق عموميات الثقافة والتواضع اللغوي لدلالات المفردات على المعني _الظاهر منه والباطن_ في العقل الجمعي/المجتمع،إن عملية الدمج التي يقوم بها الشاعر بين المفردات محدثا أثرا دلاليا جديدا تبقى هي العلامة الدالة على حضوره في القصيدة،فثمة هجرات تتم بين عوالم متعددة يُغذِّي كل منها الآخر.
ديوان الفتافيت
اللغة في ذاتها عالم ونظام له طبيعة عمل خاصة به،أما عندما يستخدمها الشاعر فإنها تخرج من وضع سيطرتها إلى سيطرته (هو)،لتصبح نظاما تمثيليا يعبر عن عالم التصورات الخاصة برؤيته لذاته وللعالم،أي أنها علامة من الشاعر لقارئه لكي يتواصل الطرفان،تبرر لغة الشاعر نفسها عبر دلالتها المباشرة أو المجازية،كما أن الشاعر يَعمَد في الغالب إلى وضع المبررات التي تهيئ للقارئ استقبال لغته بما تتصف به من مفارقة للغة الحوار اليومي،هكذا يبدأ مسعود شومان ديوانه (الفتافيت) بتصدير لـــهيدجر"إنني قد أموت في أي لحظة لأن الموت هو الإمكانية التي أحملها الآن،وفي أي وقت،إنه بمثابة الشرك الذي تنزلق إليه قدمي في أية لحظة "،وعليه فإن نص الديوان بجمتله يمثل رحلة في زمن مطلق متحرر من أية قيود،إنه يمكن أن يكون رحلة تأمل تحت الجفون استعدادا للموت أو لحظة غيبوبة ما قبل الموت أو لحظات استعادة نفترضها بعد الموت،تتابع المقاطع الشعرية حاملة الذكريات والمشاهد في سياق سردي يجمعها،يتم هذا الترابط من خلال شخصية الديوان التي تحاور نفسها أو يحاورها آخرون في لحظات سابقة على لحظة التذكر التي تعيشها شخصية الديوان/صوت النص(سعيد) والتي يأتي ذكرها مرات معدودة في مقاطع متباعدة "مزيكا يا سعيد ..بتغرق الواحد ..وتبل القميص والبنطلون..وكمي يفضل ينطر ع العيال القرع..لحد ما يفتحو"،تتم عملية التمثيل المعرفي من خلال عبور الواقع بلحظاته المستعادة من كينونة (سعيد) التي تحضر بذاتها أو تحضر بغيرها،فالمقطع السابق ذكره يمثل حضورا بالذات في النص عبر المونولوج أو التذكر،كما تأتي غالبية الديوان على هذه الشاكلة من الحضور بالذات،الذي تدلنا عليه الضمائر( المتكلم_المخاطب)حيث يتكلم عن ذاته مباشرة أو يخاطبها،كما نجد الحضور بالغير والذي يبقى أحد مستويات الحضور بالذات في النص ككل،حيث يتدخل صوت خارجي ليقوم بعملية السرد الشعرية في مقاطع متعددة،يقوم هذا الصوت الخارجي بدور العين الأخرى التي ترى ما لا يستطيع (سعيد) رؤيته عن نفسه،وهو في الغالب صوت المحبوبة/الذات/الروح/الحياة/الوطن... " هربدني ..لا شدني ..لا مد ايده ناحيتي..لكنه مدد على الرعشة ..ضرف مليانة بالفساتين .. يا هلترى توب العروسة..بتطرزه النخلة اللى واقفة ..فوق قنايا ضحكنا ولا الدولاب مفتوح "،كما نجد هذه الثنائية واضحة (الحضور بالذات_الحضور بالغير) في الصفحات الأولى عبر مقطع شعري يشير إلى هذا الإزدواج"هي=هوى..هوَّ=هَوْ هَوَة..هو=عود مصلوب..هي مِتْلوْلَوَة..هي=حباية مشمش..هو=نوى"،وهو مقطع يقوم بدور تأسيسي لتداخلات الأصوات عبر النص/الديوان،ما بين هذين الحضورين تتوزع المقاطع الشعرية لترصد تحولات الذات وأزماتها الوجودية والمعرفية بلغة تتسم بالمفارقة لواقع الاستخدام اليومي بل والمجاز اللغوي المتعارف عليه في الغالب،حيث تحضر المفردات في صيغتها المنفردة لا لتدل على التصور الأولي للمفردة،فالحمامة والشجرة والناى ...،ربما تحيلنا إلى السلام والثبات والشجن أو غير ذلك من الدلالات التي تتحملها المفردة في السياق،وهي جميعها دلالات ارتبطت بهذه المفردات عبر تراكمات معرفية و أصبحت مع مرور الوقت عموميات ثقافة في المجتمع،فحكاية حمامة نوح وحكاية حمامة المسيح تمثلان الخلفية المعرفية الأبعد للربط ما بين الحمامة كعلامة تشير إلى السلام والمحبة والمباركة،تتجاوز المفردات في سياق النص حتى هذه الدلالات المجازية التي اعتدناها حيث يجمع مسعود شومان بين المفردات المتنافرة،وهو في ذلك لا يرجو غرابة التصوير أو الدلالة،يقول "بينك وبين قلتها جرح غويط ..وهديل على الأبراج..مليان بريحة المياتم..وهي بتعرّي الكسوف على كتفها وتزوغ..شايف دموع الانبيا على كمك..لمت عيال الناصية في تنية قميصها ..واتجرجرت في العياط...."،نجده يجمع بين (القُلة_الجرح) مستخدما العلاقات الجزئية للمجاز،فالقلة تحمل الماء بينما يشير الجرح لتوتر العلاقة،حيث تفيد الجملة كاملة أنه لا يشرب من القلة لما بينه وبينها حواجز تحول بينه وبين ودِّها أو الشرب من ماء قلتها،حيث يمكن للجملة " بينك وبين قلتها جرح غويط"،(خصام)،أن تحل محل المقولة الدراجة "بينك وبينه مصانع الحداد أو بينك وبينه حديد،كذلك (بتعري الكسوف_كتفها)،فما علاقة الكسوف بالكتف؟،ترسم الجملة وضعها في حال الخجل،فعند الكسوف من المتعارف علية في لغة الجسد أن تميل الأنثى برأسها إلى كتفها قليلا،إنها في حالة الميل هذه تعبر عن كسوفها،هذا الميل والتعبير الجسدي أسماه مسعود شومان "تعرية"، كما حلت مفردة الكتف محل الرأس كقرينة دلالية،كما يعتمد الشاعر المفارقة _أيضا_ في استخدامنا لبعض الحكم والأمثال،حيث تحضر مفردة مغايرة للمألوف في أصل الحكمة أو المثل ومعها دلالتها الجديدة التي تغير من دلالة المقولة"سقطتْ بحبك بينا ..زى الفحم المبلول..لو قلبي عرق..كنت أصدق..آدى الجمل ..وآدي النخل"،نقول في الدراجة آدى الجمل وآدي الجمال،والميه تكذب الغطاس،حيث حلت مفردة (النخل) محل مفردة(الجمَّال)،وعملت على استحضار دلالة مفارقة،ففي حال الجمل والجمال قد ينجح الجمَّال في الاختبار أما في حال الجمل والنخل بالطبع لن ينجح الجمل في صعود النخل،ففي العلاقة الأولى ظنية وشك في حبها أما في الثانية تفيد هذه الاستحالة يقينة عدم حبها له،على هذا النحو تتعد المفارقات اللغوية في الاستخدام منتقلة عن المعنى الأولي وبل وحتى المجازى المتعارف عليه إلى وجود دلالي مغاير داخل نص مسعود شومان.
يمثل العالم وحدة وجودية مفرداتها الكواكب والنجوم والشجر و...،وهو في ذلك النموذج الاتصالي الأكبر،ومن المتعارف عليه إن أي نموذج اتصالي تتمم فيه نوعان من الحركة( التغذية والتغذية العكسية أو الراجعة)،كما تمتلك بعض الوحدات داخل هذا النظام طاقة كبيرة في مقابل وحدات ذات طاقة أقل،تستطيع الوحدات ذات الطاقة الكبيرة جذب الوحدات الأقل إليها،هكذا تكونت النجوم والكواكب في الفضاء،إن العالم شكل أو نمط دال يحاكيه الفنان فيما يعرف بمحاكاة النموذج،تتوزع المقاطع الشعرية في ديوان الفتافيت في بناء عالم النص على ضوء هذه المحاكاة،ما بين مقاطع قصيرة متتالية يعقبها مقطع طويل،تتحرك المفردات عبر طاقتها الدلالية من مقطع لآخر،ثمة تكبير وتصغير،تكثيف وتمدد،ففي حين يتحدث مقطع قصير عن مشهد ما وترتبط دلالته مباشرة بلحظية المشهد في الصفحة الأولى مثلا،تتبادل المفردات والمقاطع الشعرية طاقتها عبر شبكة العلاقات الدلالية داخل النص،إننا نستطيع أن نلحظ هذه الحركة بمتابعة الخط السردي والدرامي للمشاهد التي يستذكرها (سعيد)في فضاءه/الموت/النص،أو من خلال التركيز على بعض الدلالات الكلية لمقطع ما وأثرها في حالة النص ككل،مثلا،ص96 "رقصه ولا حنجلة..ولا شاش ع الجرح..ولا مرود كحل وسط العفار ..و لا قتيل بيتمشى قبره لحد بابه"،ص97 "ميكياجها ف القطن لابيض..بيصرخ للخلا..وكفني ف الأوض بيزورها..إزاي نتقابل"،يحضر المقطعان في مفردات جديدة داخل أحد المقاطع الطويلة ص100 "قد إيه كان جسمها ساعة ما طارت..قد حزن السما لما رمت وردتها لنار الانبيا.. وكنت أنا مخطوف ف مركبها .حواليا نخل وعيال بيرجموه..يسقط عفار السما ويبل توبي..وانكسف منك ..طب قده إيه جسمي..وانا تحت منديلها بنز البكا..الله ..كاسي ورد القميص بالمر..إزاي ألامس جسمها...."،إن الدلالة الكلية للمقطع القصير الأول تعني في مستواها الأول أن حياته سير نحو الموت، أما المقطع الثاني فهو حنين للقاءٍ مستحيل بين ميتين؛كل منهما في عالم معزول عن الآخر،تحضر هاتان الدلالتان في المقطع الطويل،كما تحضر بعد المفردات بعينها( العفار،الرقص)،غير أن المشهدين الأوليين يقفان في لحظة زمنية سابقة على مستوى البناء السردي،فالمقطع الأول رصد لوضعه الراقص في الحياة في طريقه للموت،والثاني يصف وضعية استحالة التلاقي،أما المقطع الطويل فهو تمدد يشمل هذين المشهدين ويتجاوزها في وصف مشهدية موتها وتساؤله عن حاله وهيئته حين يموت هو الآخر،حيث ينتهي بالسؤال ص101"طب قد إيه جسمها ساعة ما طارت ..وقد إيه يكون جسمي ..ساعة ما يطير"،على هذا المنوال تتحرك المفردات ودلالاتها داخل فضاء النص/ديوان الفتافيت،ما يمكن أن نمثله بسريان نهر بقوة تدفق تتأثر باتساعه وطوله وتؤثر فيه طرديا،محدثة في بعض المواضع انهيارا في الجرف فيتسع عرض النهر اتساعا ملحوظا عند هذه النقطة وبالطبع تكون نسبة الماء التي تحويها أكبر من مثيلاتها على طول امتداد النهر،الفتافيت الشعرية لدى مسعود شومان رحلة تهاجر فيها المفردات والدلالات كل على حسب طوله الموجي وطاقته داخل النص/النهر/العالم.





ياسر المحمدي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق