يعد شعر العامية واحدا من أجلّ الفنون وأكثرها انتشارًا بين الأوساط الأدبية، بداية من تطوره من فن الموشحات حتى وصوله إلى تلك المرتبة العالية التى يتمتع بها اليوم، مما يدعونا للتوقف أمام هذا الفن المعبر عن الصدى الشعبى لمحاولة سبر أغواره واستكشاف المتعة فيه.
إن أول ما نلحظه فى شعر العامية هو التطور المتلاحق الأنفاس منذ نشوء الموشحات الأندلسية وفن الزجل عن طريق الشعراء الجوالين فى الأندلس، وهم طائفة من الشعراء كانوا يطوفون على الملوك والأمراء يستجدون منهم بترديد الأبيات الشعرية التى يحفظونها، وأغلب الظن أن شعر العامية تطور من هذه الطائفة لانتشارها واختلاطها بالعامة مما بهرهم بالموشحات وبالنظام النسقى واللحنى الخاص بها وبتكوينها السهل والمميز فى الوقت ذاته، من أغصان وأسماط وأوزان اختلفت عن شعر العرب لاختلاف البيئة والثقافة مما أدى لاختلاف الرؤية الشعرية ومحاولة وضعها فى نمط مختلف يستسيغه الناس، فبدأ العامة يتمثلون الموشحات لكن بلغة عامية، وإن كانت تقترب من الفصحى فى بادئ الأمر لعدم وجود هوة بين الفصحى والعامية فى ذلك الوقت، ومع انتشار العامية مع الوقت بدأت تأخذ شكل المربعات أو فن الواو، ومن أقدم ما وصل إلينا فى هذا الفن هو مربعات ابن عروس، تلك الشخصية التى تحدث عنها الكثير ما بين الحقيقة باعتباره شخصية عاشت بين الناس ورددوا شعره وبين من اعتبره شخصية أسطورية من نسج الخيال الشعبى لمن يريد أن يعبر عن نفسه دون توريطه فى محاجة أدبية أو نزاع مع سلطان أو ملك، وهى تيمة شعبية قديمة معروفة منذ الأزل سواء عند بيدبا الفيلسوف الذى ألف للملك كليلة ودمنة وأعطاه ما يريد قوله على لسان الحيوانات، ومثل مبدأ التقية عند الشيعة، المهم أن ابن عروس له العديد من المربعات المتشابهة فى البناء والشكل الحكمى مما يدعونا إلى القول إن الرجل شخصية حقيقية لها تأثيرها المهم فى شعر العامية المصرية ومن مربعاته:
ولابد من يـوم معلـوم
تترد فيـه المظـالم
أبيض على كل مظلـوم
واسـود على كل ظـالم
مسكين من يطبخ الفـاس
ويريد المـرق من حـديده
مسكين من يعاشر النـاس
ويـريـد من لا يـريـده
وقد ظل ذلك الشكل الحكمى هو المسيطر على العامية، حتى بدأ الشكل الثورى أو الكتابة المتلاحقة الأنفاس أو السرد المتدافع كلها أنماط شعرية عملت على إشعال الثورة فى النفوس، وتنامت مع ظهور عبد الله النديم ذلك الشاعر المتخفى الهارب دائمًا من مكان لآخر والمحرك الروحى للثورة العرابية، مع أنه كتب بالفصحى إلا أن شعره اقترب من كل طبقات المجتمع لعله كان يكتب لغة وسطية المهم أنه ألهم الشعراء الحماسة وأخذ الراية من بعده بيرم التونسى الذى يتميز بالنقد البناء و الساخر فى ذات الوقت، ولكن لم يلتفت فى محاولاته التأريخية للمجتمع إلى جماليات القصيدة الممتعة فلم يهتم بتنميق الصورة والبحث عن تجديدها وإعطائها الشكل الجمالى المطلوب لجذب الناس إلى الذائقة الشعرية ومدى الاستمتاع الذى يعتمل النفس عند التّماس مع الصورة المدهشة للعقل والممتعة للنفس، ليؤدى الشعر دوره الكونى فى تفاعله مع الإنسان، وهذا ما حاول صلاح جاهين الوصول إليه من خلال رباعياته والتى لا يختلف على حكْميّتها أحد ولا على محاولته المستمرة للوصول بالصورة إلى غاية الكمال، وأعتقد أن هذا هو مشروع صلاح الشعرى وإن أخره حزنه وانكساره عن إتمامه، فالمتابع لشعره مع بداية الثورة يجد فيه بساطة الواقع دون محاولة الدخول إلى أبعاد تأويلية.
ومع تطوره بدأ الدخول إلى تنظير الكون وكان مدخله هو الرباعيات، والتى تسير على نسق واحد ومحدد مثل النسق الكونى وبداخلها محاولة للوصول إلى إجابات عن تساؤلات مطروحة مسبقًا أو محاولة طرح تساؤلات جديدة تتعلق بالحياة والموت :
فى يوم صحيت شاعر براحة وصفا
الهم زال والحزن راح واختفى
خدنى العجب وسألت روحى سؤال
أنا مت؟؟ ولا وصلت للفلسفة؟؟
عجبى !!!!!
ولكن صلاح مع انكساره بعد تحطيم آماله فى الثورة والانكسار للحلم العربى فى التجمع والوحدة والوقوف صفًا واحدًا ضد أى مواجهة، وصل إلى حالة من تشويش الرؤية لأن المغذى الرئيسى لأحلامه توقف وتعطل فتعطلت معه رؤيته ومشروعه، أما حداد فقد آثر العودة إلى الروح والتعامل مع الشعر من منطقة الحضرة الشريفة بدلاً من الألغاز والأحجيات التى كان يحاول من خلالها إعطاء الشعر شكلاً متميزًا ومفارقًا لشعر العامية لكن لم يصل للناس إلا الشعر البسيط المعبر عن أحوالهم، ولعل الحضرة الشريفة لما فيها من حس صوفى عالى وصوت إيمانى قوى وصلت إلى الناس بشكل أعمق لأنها تماست مع الشعور الإيمانى المتغلغل فى النفس البشرية، فالنفس تجنح ناحية الروحى دائمًا وتتعامل معه من منظور شفاف لأنه يخرج بها إلى عالم بعيد وممتع فى ذات الوقت.
وهذا هو الشكل الجميل للقصيدة العامية والذى يجب أن يتنبه إليه شعراء العامية فى هذا الوقت، وأنا لا أهدم باقى الأشكال وإنما ألقى الضوء على شكل هام وغير منتشر الآن، فالقصيدة إذا تعاملت مع إدخال المتلقى فى حالة وجدانية عالية سواء من الناحية الدينية بالتعامل مع المقدس المكمِّل للشخصية أو بالتجاوب مع الموروث الدينى فى تاريخه وشخصياته بدلاًًً من الموروث الغربى لكان هذا أدعى لاكتمال الشخصية العربية ومجادلتها لقيَّمها المتأصلة فى النفس فيما مضى، أما الآن فقد أضحت هذه القيم فى الكتب.
إذن القصيدة العامية تعد المدخل الطبيعى لتوعية الناس، بما أنها واحدة من أفضل الطرق للتواصل بين الشاعر والناس على مختلف مستوياتهم، وبين الناس وبعضهم لسهولة تلقى اللغة العامية دون معارف سابقة أو ثقافة لغوية معينة.
ويعد تفاعل الناس مع القصيدة هو تفاعل مع الحياة فهمًا واستمتاعًا، وهذا هو المعيار الثانى لشكل القصيدة العامية، فالوعى بالحياة وما يتوجب علينا فعله اتجاهها للوصول إلى أفضل معيشة مستقرة ومتوازنة مع الكون هو هدف القصيدة دون الدخول إلى معترك التقييم الأخلاقى أو الخطابية، بل التأثير الشفاف للشعر بما يفعله فى النفس من تأثير قائم على التجلى الشعرى لمخاطبة النفس، كما قالوا قديمًا: ثلاثة قادرون على تفكيك الكون وإعادة تركيبه بشكل مختلف " النبى والفيلسوف والشاعر"، وأنا أعتقد أن تجربة هذا الجيل من الشعراء –مع الاحتراز لمفهوم الجيل– تحاول التعامل من هذا المنطلق القائم على الجدل مع الموروث لفهمه ومحاولة تنميق القصيدة بأصدائه وقيمه وذلك بسبر أغوار الكون من منظور واعى ومفارق لمن سبقه لاختلاف التجربة واختلاف زمن كتابة النص واختلاف المعطيات الحياتية.
ولعل ذلك الاختلاف كائن حى يعيش بالشعراء ويتنفس شعرهم لأن منظومة الحياة إبان صلاح وحداد ومن سبقوهم من معايشة الاحتلال الفعلى والقمع والثورة اختلفت الآن من ظهور للعولمة والدنيا، التى أصبحت قرية والأحداث المتلاحقة والتغيير فى الذوق مما يحتاج رصد العلاقة بين التكنولوجيا والشعر.
فقد ينصرف الذهن لأول الأمر إلى أنه لا علاقة نستطيع أن نوجدها بين التكنولوجيا والشعر، وهو أمر طبيعى فالتكنولوجيا مجموعة وصلات مادية تعتمد على إعطاء الأمر للآلة، وعلى الآلة تنفيذ الأمر دون الرجوع إليك، فهى تعتمد على مرجعيتها المستقاة أساسًا من مجموعة الأوامر التى توفر لنظام التشغيل عمله، وما عليك إلا إعطاء الأمر بالشكل الصحيح وعلى المرجعية أن تقوم بالتنفيذ، لكن ألا يتقاطع هذا مع نظام القراءة التشغيلى بمعنى أن القراءة التى يمارسها الإنسان العادى تمتلك نظامًا تشغيليًا أيضًا له مرجعيته شبه الآلية، ولنبدأ بالصوت وهو الأساس فى اللغة، لأنه العامل الأول لخروج اللفظ عند الإنسان وهو الذى يعطيه القدرة على إبداء كل حرف وتجميعه فى مقطع لغوى واحد يعطى معنى للكلمة، والتى تتجمع مع مجموعة الكلمات لتعطى معنى الجملة فى تراتبية يحددها المتكلم أو الكاتب، وتلك التراتبية تحددها العملية العقلية التى تصنع الصورة الذهنية للحرف، لتنقله من صورته الذهنية فى الخريطة اللغوية للعقل إلى الواقع عن طريق انفعال نفسى يعترى المتكلم أو الكاتب، ليعطى القدرة على وصل كل الكلمات ببعضها حتى تتضح الصورة الكلية لتمام المعنى أو للفت انتباه السامع.
بعد تمام هذه العملية فى الخريطة اللغوية التى هى مجموع التصورات المختلفة والخبرات والتعليم والقراءات اللغوية التى يحصِّلها الفرد خلال حياته، ويدمجها ليصنع شكلاً نهائيًا للغة فى ذاكرته، أقول بعد تمام هذه العملية يبدأ الربط بين الكلام والكتابة، تلك الرموز السحرية التى ما إن يقع بصرك عليها، إلا وينتقل المعنى تلقائيًا لذهنك، وهى "الصورة الكلامية" للحديث/الكتابة، وهذه الصورة تتلاقى مع فكرة آلية التعامل مع فضاء الصفحة الورقى، أو الفضاء الإلكترونى وقت الكتابة على جهاز الكومبيوتر، أو على المدونة مما يعطى إحساسًا مختلفًا للتعامل مع عملية الكتابة.
لكى نكون أكثر تحديدًا يجب أن نرى هذا التحالف بين الفضاء الإلكترونى والفضاء الخيالى فى نوع محدد من الكتابة، وليكن الشعر الذى يعتمد فى جزء من آلية كتابته على محاولات لوضع تصور عن العالم والذات من خلال كسر حاجز اللغة التقليدى والانتقال إلى ما يسمى "اللغة الجديدة"، وهى اللغة التى تتعامل مع المهمش وبلاغته وذاكرة الواقع المعاش و الكلام اليومى واللغة الدارجة من ناحية، ومع جمل الشات والفرانكو آراب والكلمات المنحوتة من اللغات الأجنبية من ناحية أخرى، نحن إذن أمام حالتين من الخيال الجديد المعتمد على تطويع اللغة والتكنولوجيا فى أشكاله الكتابية، فتطويع التكنولوجيا يأتى من خلال استعمال مفرداتها فى لغة الشعر.
وقد يتم تطويع التكنولوجيا فى عملية التبادل المعرفى للنص، أو دائرة الديمومة فالكتابة لا تتوقف على فكرة الإرسال للقارئ فقط، بل تتخطى الحدود ليشاركك المتلقى أيًا كان مكانه فى كتابتك، فهو يقوم بالتعليق على مدونتك، وبالتالى تقوم أنت بالتعليق على تعليقه ويدخل آخرون فى دائرة التعليقات التى تثرى العمل ككل، وقد يعجب الكاتب بتعليق من شخص ما يغير رؤيته إلى منظور جديد، فيعيد اكتشاف النص وكتابته من هذا المنظور، مما يفضى بنا إلى الالتفات إلى أهمية فكرة دائرة الديمومة فى علاقة المبدع بالمتلقى وتأثير ذلك على النص، وهناك تأثير آخر يصطنعه المبدع عند تعامله مع فضاء الصفحة الإلكترونية فهو قد يستخدم التأثير البصرى فى تحريك بعض الحروف مما يلفت الاهتمام إليها، أو إضافة صورة إلى النص مما يؤثر على المتلقى فى إضافة مساحة بصرية جديدة للنص تزيد من مساحة الخيال وعمليات الربط بين الصورة والأحرف المتحركة وبين النص ككل.
إذن نحن أمام فتح كبير لعملية الكتابة الجديدة وعلى المبدع الالتفات إليه، وإلى آلياته التى لا تعترف بحدود وتقتضى التعامل مع مؤثرات بصرية حديثة ومجاز لغوى يبتعد عن التقليد وينهج نهج كسر حدود الزمان والمكان، ليتطلع إلى شكل كتابى متعدد ومنفتح ومتجدد مع تجدد التطور التكنولوجى الدائم. المهم أن ذلك الكائن المختلف –الكتابة الجديدة- الذى يحيا بالشعر الآن من الواجب علينا أن نعطيه غذاء صحيًا حتى ينمو ويصبح كائنًا صحيًا ومهمًا وفاعلاً بدلاً من الكائنات الأخرى الناشرة للعدوى، فهل من مؤكِّل.
****************
عن اليوم السابع
الأربعاء، 6 مايو 2009 -
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق