2014/04/16

على هامش السيرة الفاجومية




على هامش السيرة الفاجومية
سعيد شحاتة
**************



- كلمتين يا فاجومي جايز/ يبقوا آخر كلمتين -/ مصر كات يوم انسحابك / قاعده قدام الحسين/ لابسه شال أبيض مزهّر / والعيون ع الضلفتين / - شباكين يا نجم دوغري/ ع الغلابه موصّلين/ كنت في العين الشمال/ واحنا في العين اليمين-


من لميادين مصر الآن بعد مانديللا مصر؟ هل ستخلو شوارع القاهرة من أنفاسه؟ متى ستجود مصر بمتنبي جديد؟
أسئلة تخرج من شفاهنا كالمخاط المختلط بالدموع وإجابات عصية على الكهنة والقديسين والمشايخ، الجميع ينظر في وجه الجميع، رعشة الحزن الممتزج بالخوف تسيطر على أوصالنا، السؤال غير التقليدي يطرح نفسه بشدة: هل رحل الفاجومي؟ هل طاوعته نفسه على ترك معشوقته للقتلة والمتناحرين وآكلي لحوم البشر؟ هل كانت روح الشيخ إمام أقوى من أرواحنا في هذه اللحظة؟ هل تخلّى النهر عن مجراه وآثر التوقف؟ هل هذه خطة من الخطط العفوية التي كان ينتهجها في حياته للحصول على صيد ثمين في قصيدة جديدة سيفاجئ مريديه وعشاقه بها؟


رحيل يثير الشفقة علينا ويضفي جميع قلادات ونياشين الزعماء عليه.
الفاجومي: أبي الذي ترك مقعده خاليا دون أن يترك لي كلمة وداع واحدة، فاجأني كما فاجأ الجميع وانسحب من المشهد برقة النبلاء وعنترية الفرسان الأشاوس، ولا جديد من كاسر إيقاعات الحياة وزعيم المفاجآت، هكذا عرفته مصر، لا يحتويه إلا قلمه ولا يسيطر عليه إلا قصيدته ولا يثنيه عما يريد أن يفعل إلا خالقه، فهو الشاعر الفذ المقاتل، المجدد، النادر، الهادر، القادر على تشكيل مصر في قصيدة وصياغتها في قصيدة وإعادة تكوينها وترتيبها بين دول العالم في قصيدة لا تقل في بلاغتها عن قصائده الأولى.
دائما كنت أسمعه يقول "أنا مش هاموت يا ولاد غير لما أشوف فلسطين زي ما أنا عاوز"
ولكن بعد أن هاتفه الشيخ إمام من مرقده وأخبره أنه في أمس الحاجة إليه في هذه الآونة نظرا لزيادة الضغوط التي يتعرض لها هناك، اختزل الفاجومي حلمه العربي في عبارته الشهيرة – التي كانت الأصعب ولكنها الأقرب في تحقيقها- "أنا مش هاموت يا ولاد غير لما نحرر مصر من مبارك وعصابته" وبعد أن تحقق هذا الحلم؛ لم يستسلم لنداء إمام ولكنه سرعان ما أطلق شرارة حلمه الجديد في ميادين مصر ليضمنها حلما آخر أكثر صعوبة فيقول "أنا مش هاموت يا ولاد غير لما نحرر مصر من الإخوان".. تحقق آخر حلم للفاجومي على المستوى المحلى ولكنه تغاضى –كما ذكرت- عن حلمه العربي فلسطين نظرا لتكرار طلب الشيخ إمام وإلحاحه فيه هذه المرة.


أخذ الفاجومي كل قصائده الجديدة تحت ذراعه وخدع مجالسيه واستعد للإجابة، ركب براق رحلته ليقابل الشيخ إمام في مقابر الغفير، حيث الموعد المحدد والمكان الذي أنهك مخبري مصر وخفرائها في البحث عنهما.
ذهب إمام وناضل من مرقده إلى أن استقطب نجم، فتركا الضابط الذي يحفظ ملفهما في دولابه في حيرة من أمره، ما الذي يخطط له إمام ونجم، هل يخططان لغزو مصر من ناحية مقابر الغفير؟ جمع عساكره وراح يبحث عن طريقة جديدة لمراقبة تحركات كليهما في الآخرة، كان الله في عونه.. غلّبوه دنيا وهيغلبوه آخرة.
أتيت إلى القاهرة في بداية الألفينيات أبحث عن وجهه، هل لي أن أقابل صاحب "بقرة حاحا" التي شنفت آذان صيادي بحيرة البرلس بها لدرجة أن من رآني منهم ولو صدفة على شاطئ البحيرة أخذ يتراقص ويغني "ناح النواح والنواحة على بقرة حاحا النطاحه" لأقف أصفق معه وأردد مع كل مقطع "حاحا".
فتشت في كل قاعات الشعر المغلقة عنه ولم يكن في مخيلتي أنه كائن ضد المساحات الضيقة ويعادي الأماكن المغلقة ويحارب مرتاديها بكل ما أوتي من قوة، نجم لا يمكن أن تجده إلا في الأماكن المفتوحة، يضحك ويغني ويطلق النكات ويحكي سيرته الفاجومية أو ما تيسر منها، كلما قابلناه فتح ذراعيه ضاحكا "ياللا ياد يابن الكلب انت وهو.. هو أنتو مالكوش أهل" نضحك ويضحك الإسفلت تحت أقدامنا، ونقبله ويمضي، نمضي بعد أن نستنشق مصر من طيّات جلبابه, نمضي بعد أن نقرأ على جبينه عذاب سني القهر والظلم والتخلف والجهل وقمع الحريات وقتل الشعراء, نمضي وأنا أقول في نفسي وأقسم لها: إن هذا الرجل أهم من محمد على وجمال عبد الناصر، لأنه يحب مصر أكثر منهما، وإذا وصل إلى هذا المنصب الذي أخطاه بفعل الشعر لجعل مصر أعظم بقعة تحت خيمة الله الزرقاء.
رحل الفاجومي لكنه لم يمت.. لأنني سمعت روح دنقل تهتف في جنازته:
هل يموت الذي كان يحيا
كأن الحياة أبد"
وسمعت روح إمام تبتسم وهي تغني:
"لا طبالين يفرقعوا ولا إعلانات"../.."ما رأيكم دام عزّكم يا أنتيكات / يا غرقانين في المأكولات والملبوسات/ يا دفيانين ومولعين الدفايات/ يا محفلطين يا ملمعين يا جيمسينات/ يا بتوع نضال آخر زمن في العوامات/ ما رأيكم دام -عزكوا الفاجومي- مات".


3 ديسمبر 2013 تاريخ لن أنساه في شوارع القاهرة، لأنه اليوم الوحيد الذي شعرت فيه بالبرد الشديد، اليوم الذي افتقدت فيه وجها آثرت ألا أظهر معه في صورة ظنًّا مني أنه لن يتوارى، شأنه شأن أهرام مصر، فمنذ أن وطأت أقدامي شوارع القاهرة لم أفكر لحظة واحدة أن أقف خلف الأهرام ليلتقط لي أحد أصدقائي صورة معها، وكذلك فعلت مع الهرم الرابع، والزعيم الثالث، أحمد فؤاد نجم.
تركنا نجم، ونصيحتي للقائمين على الحركة الثقافية في أي مكان، لا تحاولوا تصنيع الشبيه لنجم، لأن أمثال نجم والمتنبي لا يمكن تصنيعهم، وهذا لا لشيء إلا لأنهم صنيعة الزمن، فلا تقفزوا على الزمن.

يا "أبو نوارة"...
كان نفسي أقابلك في الشارع صدفة عشان أقول لك آخر نكته يا أبو النجوم.
انت أكتر واحد شفته بيحب ربنا وعشان كده ربنا هيقول لك زي أنت ما حبيت إنه يقول لك "أنت واد جدع"، ومصر هتدعي كل يوم في مقام الحسين وهي حَلّه شعرها وتقول "يا رب اكرمني بعيال جدعان زي نجم"
فتحت عينيّ الشاعرتين على قصيدته "الفول واللحمة" وأغمضهما كل ليلة على قصائده "عزة" "نوارة" "جيفارا" "بهية" "زيارة لضريح عبد الناصر" ...........
مع السلامة يا فاجومي... مع السلامة يا مانديللا

يا سهل مصر الممتنع
صاحبك وصاحبي
............ وكل شيء
...... على أرضها مش مقتنع



هناك تعليق واحد:

  1. عليه رحمة الله الشاعر المبدع العبقري الفاجومي-أحمد فؤاد نجم- أستاذنا ،مقال أكثرمن رائع يا مبدع وطول مافي شعراء مبدعين ك-سعيد شحاتة- طول م الدنيا لسه بخير ،خالص تحياتي

    ردحذف