كالمصباح المعطر بروائح النور ، تمتد حروفه المتوهجة الملامح ، مروراً لأطراف الذهن ، معلنة إنارة اعمدة الروح المتعلفة بذيل قلمه .
عندما أتحدث عن شخص ، تتجسد سريعاً صورته أمامي ، وتتوالى بعدها ملامحه فرحاً وحزناً كشريط سينمائي يُمررالزمن وسط إنبعاثات الضجيج ، كطيف الظل هو ، حروفه تتشابه ووقوع الخيال مختبئةً بأغلفة القلب ، تكوينات وجهه المعبر عن أصالة الإحساس المطلق ، تتسابق لتقول لك
” لا يؤلمني سوى الخوف من المجهول ” .
تتهاوى مساحات الغيوم بطيات إحساسه ، يعانق قلمه فضاء الأفئدة معانقة الإخلاء الأوفياء ، صنع من عالمه كوكباً يعبر حواجز الشعر العامي بل ويخترقه ، حين إشتدت أصابعه محتضنة القلم المزركش بالموهبة الربانية متأنية الهدوء ، عندما تداعبك نفسك التي يعتصرها حرفه الأنيق ، تحدثك الأيام عن تعافبها المروع بشئ من الحزن الشفيف … إنه الشاعر المبدع الراحل : عبد الرحيم منصور.
فلا تخلو أغنية كتبها من مجموعة من الحكم التي تشعر أنك سمعتها من حكيم فيما سبق ، كثير من الأغاني التي تربت عليها أجيال ساهمت كتاباته في بناء وعيهم، وبناء الحس الثوري بداخلهم.
قالشاعر عبد الرحيم منصور القادر على غزل كلمات شديدة البساطة، داخل منواله الحسي ، ليصنع منها صوراً عظيمة قادرة على إثارة الدهشة والفوز بالإعجاب من الجميع.
ولد الشاعر عبد الرحيم منصور شاعر العامية بمحافظة قنا في15 يونيو 1941 ، ثم إنتقل للقاهرة فى الستينات حيث بدأ يكتب بالعامية التى سرعان ما إنتشرت بين البسطاء ، وبدأت الأغنية تكتسب معانى ومفردات جديدة ، وتعتبر نشأته أكبر مؤثر في كتابته وعندما كانت والدته : السيده زينب اسماعيل الخلاوى وهي من مواليد دندره نجع الرد – قنا ، تلقى انشادات امام الفرن لتضيع الوقت و ما كاد شاعرنا عبد الرحيم يشب عن الطوق حتى كانت بذور الشعر التي زرعتها فيه أمه قد بدأت تظهر وتحاول الخروج وهكذا حرضته موسيقى الشعر للرحيل عن قريته بحثا عن حلمه ..
وبداية اكتشافه كانت على يد الكاتب الكبير ” لويس جريس” أثناء جولته في الجنوب المصري لإكتشاف المواهب لتقديمها في مجلة صباح الخير تحت عنوان “المعذوبن بالفن” ، وعثر أثناء جولته على كنز من المواهب أعلن عنه وقدمته المجلة ، هذا الكنز كان الشاعر عبد الرحيم منصور الذى يكتب بالعامية .. وبدأ هو ومعه مجدي نجيب والأبنودي وسيد حجاب في بث أشعارهم العامية عبر الاذاعة وكان الناس يعشقون هذا النوع من الشعر الذي أصبح على كل لسان وخصوصآ البسطاء لأنه كان يستخدم لغة حياتهم اليومية التي تشكل تعاملاتهم ومشاعرهم ، وأيضآ لأن اللغة كانت متواصة مع موروثنا الشعبى الملئ بالمواويل والملاحم الشعبية التي رسمت الحياة الإجتماعية في مصر على مر العصور..
وهكذا استقبلت القاهرة أشعار عبد الرحيم منصور وفتحت له صدرها لأنه كان أقرب تعمقآ في جذور الأرض التي شكلت الوجدان الشعبي واقترابه من سخونة الجنوب في مشاعر أهله المليئة بالمواويل الحزينة ، وكتب ديوانه الأول “ الرقص ع الحصى “ في أواخر الستينات وكان نشره على حسابه الخاص ولأنه لم يهتم كثيراً بالدواوين فلم تنشر باقي الدواوين.. وقدم مع بليغ حمدي وقتها الكثير من الأغاني لكبار المطربين والمطربات وبرز أسمه خصوصاً أثناء حرب أاكتوبر فكانت أول وأشهر اغانى النصرمن كلماته وتغنى بها أشهر المطربين والمطربات .. إلى أن بدأت محطة هامة في حياته حين تعرف على المطرب ” محمد منير” وبدأ معه مشوار دام حوالى 10 سنوات وكان التحدي الذي واجه عبد الرحيم هو كتابة أغاني رومانسية وقت رحيل الفنان ” عبد الحليم حافظ ” فخرجت الرومانسية على طريقة عبد الرحيم بشكل جديد وبمفردات جديدة تماماً على الأغنية الرومانسية السائدة وقتها في أغانى مثل ” في عنيكي ” ، ” يا صبية ” وبدأت الأغنية تتخذ شكل جديد كما شملت أغانيه موضوعات لم يتطرق لها أحد من قبل وبدأ كتابة أول البومات منير “علموني عنيكي ” ووقتها تعرف على الملحن النوبي ” أحمد منيب ” والملحن والموزع ” هاني شنودة” وتوالت النجاحات حتى وصلت للذروة في ألبوم “شبابيك” عام 1981 كما كتب في أوائل الثمانينات لمطربين جدد ساعد على نجاحهم بجانب المطربين الكبار وقتها..
تعتبر أول الثمانينات هي الفترة الأهم والأشهر في حياة عبد الرحيم منصور حيث كتب لمحمد منير أغاني في ألبومى “شبابيك” و”اتكلمي” كما وضع سيناريو وحوار وأشعار فيلم ” الزمار” للمخرج عاطف الطيب وكتب أول أغاني المطربين عمرو دياب وعلي الحجار ومدحت صالح ومحمد ثروت ووليد توفيق .
أما الشاعر مجدي نجيب الذي كان يروي مواقف من حياة “عبد الرحيم منصور“ فيقول :
كان دائما يحن للرحيل في أتجاه الجنوب ، وقد سألته كثيراً لماذا لا تحس بالإستقرار ؟
قال: يا صديقي .. دائماً يركبني إحساس بأن القاهرة ستأخذ عمري مبكراً .. وإحساسي بالوحدة وسط الزحام يخنقني كل يوم .. والغربة تقتلني ، فأحن إلى رائحة أمي وذكريات إنشادها وهي تطهو الخبز أمام الفرن.
قلت له: أنت مدلل في غربتك .. والناس كلها تحبك .. وتشتاق لسماع أشعارك .. وفي أي مكان من الوطن لن تستطيع الهروب من الغربة!
يتذكر أنه على موعد قد يفوته ، فيبدأ قلبه يدق بسرعة ويحاول التغلب على حالته بمصمصة شفته السفلى لكى : يمنح نفسه فرصة للتفكير ، فأراه شارداً ، فأسأله مالك؟
يتركني دون كلمة .. ويذهب إلى محطة القطار للرحيل ناحية الجنوب متخيلاً فتاة بملابسها المدرسية تنتظره بلهفة على رصيف محطة المنيا ولكنه لا يجدها .. فيعود إليّ باكياً بعد أن كتبت إليه : كل الشعراء بلا عناوين .. يتعلقون بالوهم ، ويتلذذون بمضغ الألم واحتساء عصير وجع القلب.
وكان يتخيل أنها قد تركت له هذه الرسالة وغيرها عند بائع الجرائد في محطة القطار ، ويظل يعيش على أمل لقائها ، فيعود مرة أخرى ليحكي لي عن ضفيرة شعرها التي ترقص عندما يداعبها النسيم .. وعن نظرتها التي تلتقطه من وسط الجميع لكي يحل ضيفأ حبيباً إلى قلبها كنت في كثير من الأحيان أتأكد بأنه يحاول البحث عن حبيبة لا يعرفها .. ولكنه كان دائم الإصرار على وجودها والتلذذ بالعذاب .. ويتوهم أنها قد غادرت محطة القطار قبل وصوله!
كان يتميز بقدرته على إخفاء حزنه في صوامع صمته ، متحملاً معاناته اليومية في كسب لقمة العيش ، نافضاً عنه وجعه المتوارث وثوب حيرته ، ويعود للتنقل بيننا كالعصفور .. يرقص مع أنغام كلماته المغناه على شفاه المطربين والمطربات ، فمرة إلي الشجن في لو سألوك أو .. بكره يا حبيبى لوردة وجرحتنى عيونه السودا وعطاشا وقضينا الليالي لعفاف راضى وباعشق البحر وسكة العاشقين لنجاة وياطير الشوق وحبيبى يا متغرب وطلع القمر ع الباب لفايزة أحمد ، وكان النصيب الأكبر من شعره الغنائى لمحمد منير الذي عبر به إلى منطقة التميز والتفرد.
آه يا عبد الرحيم . لو طالت بك الحياة .. كنت بالتأكيد ستثري حركة الغناء بألوان حروف المنتقاه من ..عطر شجر الليمون ولكن الموت دائما يختار أجمل وأفضل ما فينا من الأحباب والأصدقاء دهشتي لا تزال قائمة.
فعندما رحل عن عالمنا لم أكن بالقاهرة ، حيث كنت أعمل فى دولة قطر فى مجلة الأمة الإسلامية ، ولذلك لم أصدق حتى الآن حكاية رحيله عن عالمنا ، وغير مصدق أن للموت أياد طويلة قادرة على إغتيال الأحباب فجأة ودون سابق إنذار.
لقد سقط صديقى عبد الرحيم من فوق شجرة الحياة مثل ثمرة نبق صغيرة .
* معاي لما تركته
لما لقيته
دلوقتي بس حننتبه لحركته
لهدوءه
يا مغربية عصر في تيابه
كباري زرع بتتنبه لغيابه
مرايه
ملحمه من النيل
البنايين شبهه
وربطة المنديل
وعقدة المنديل
ورحل غنوة مصر ” عبد الرحيم منصور” يوم 28/7/1984 .
* الشاعر الكبير “فؤاد حداد” يرثيه في قصيدة ” ألاقي فين عبد الرحيم منصور”
شاعر السفر والغربه رحمة الله عليك وعلى صديقك أخى محسن جابر رسام الكاريكاتير
ردحذف