.... يبعـد بيت سيد الاعرج مســـافة بيتين عن بيت الشيخ حسن . يعمل ابوه عبد المحسن
أفندى كاتب فى الجمعية الزراعية . بشــهادة الأعدادية . عينوه يوم أفتتاحها بحضور المحافظ
ومأمور المركز .. وتوســـط له العمده الحاج عبد الرحيم صالح . الذى ينتسب من بعيد الى
عـائلة الشــيخ حســن الأعظـم صاحب المقام ، المقٌام آخــر الجبانات وعلى اول حدود الحقول
من الجهه الشرقيه . فاصبح عمــره الوظيفى من عمــر الجمعية الزراعية . يعرف كل شئ فيها
وعلى دراية بما يجرى فى دهاليزها من محسوبيات وواسطات . وما يقع فيها من مصائب .
ونأى بنفســـه عن هذا كله . معتمدا على راتبه الشهرى وما تجود به أرض العائلة التى له فيها
نصيب .... رجل صالح لا يترك فرض الله من صلاة فى وقتها . وخص للوضوء قبقاب تحت مكتبه
ومنديل محلاوى يضعه على رأسه وقت الصلاة . ثم تحت الطربوش ابو زر حال ذهابه وايابه من
العمل ليقيه حرارة الشمس . قصير القامه . منبعـج الكرش . له شارب غليظ على وجهه النحيل
ورأسه أصلع يلمع أفتح من لون ســـحنته . كان موكل اليه فتح وأغلاق الجمعية لكونه من القرية
وباقى العاملين من مراكز وقرى مجاوره .
.. فى الســاعة الثانية والنصف يقوم عن مكتبه . ويغلق الادراج جيدا . ثم يرتدى المنديل على
رأسـه ويكبس عليه الطربوش جاعلا الزر عند اذنه اليمين . ثم يتنحنح ويخرج الى الباب الرئيسى
ويضع المفتاح مكان الغلق ويقف منتظرا خروج زملاؤه حتى آخر نفر . وكل منهم يلقى عليه
السلام . وهو يردد دون توقف ... سلام .... ســلام .. سلام . كأنه فى طابور عزاء . ثم يغلق الباب
ويهزه بقوة ليتأكد من تمام أغلاقه . ويمر على الشبابيك ليطمئن على احكام قفلها . ويتأبط
الجــريدة القديمة التى اشتراها من البندر منذ قرابة شهر . ويمسك المنشة الموروثه عن ابيه
فى يده اليمين . ويظل يهش بها لا شئ ويضرب بها رجله . وهو يخطو بتؤده كالطاووس .
والناس الرائحة والآتيه تلقى عليه السلام . أو تسأل عن سلامته .
_ أزيك يا عبد المحسن أفندى ,
_ عال .. الله يخليك يا مصلحى . سلم على ابوك .
_ سلام عليكم يا خال .
_ عليكم السلام . ازيك ياواد يا علي .. سلم على أمك .
_ التقاوى وصلت يا عب محسن أفندى .
_ وصلت يا حاج فوزى .. ابقى تعالى استلم بكره .
_ طيب .... مستنينك على القهوة علشان تقرالنا الجريدة .
_ طيب ....
لا يتوقف فمه عن رد التحايا حتى يصل الى البيت ليجد زوجته فى انتظـــاره على الباب .
امراة طويله رفيعه العود . كحيلة العينين .. جديلة الشــعر . تعوج القمطه على رأسها
وتلفها لفتين . وتربطها من الجنب فوق حلقها المخرطه . وتجعل شعرها جديلة على صدرها
وجديلة على ظهـرها . كالعايقه ..
ظلت عشر سنين لا تنجب . زارت خلالها كل اولياء الله الصالحين بداية من المرسى ابو العباس
حتى السيدة نفيســـه . وقطعت عهدا عند مقام السيد البدوى . واخذت أثر عبد المحسن
وألقت به فى جب مهجور حتى يخرج المولود بجمال سيدنا يوسف . وعندما دعتها خضرة
زوجة حسونه الجزار لحضور زار أقامته عندها لتخرج العفاريت عن جســدها . لبت الدعوة
وذهبت .. فلما أنتهت . أخذتها الشيخه من يدها وأعطتها زجاجه بها سائل كالماء . وقالت
لها هامسة : _
_ تضعى ما فى الزجاجه على صفحية مياة ساخنة . وتستحمى بها . بعدها
لزما .. ولابد .. أن ينام زوجك معك . وانشاء الله يحصل المراد من رب العباد .
ثم أعطتهــا صابونة فنيك ملفوفة فى قطعة قماش . وقالت لها مبينه ماهيتها وهى تضرب
بعينيها يمينا ويسارا . كمن تخاف ان يسمعها أحدا أو يرى ما يدور .. : _
_ الصابونة دى . صابونة الفرعونه مرات الفرعون الكبير . والله . وآدى يمين بالله ما تخرج
الا للحبايب . استعمليها مع المياة . الفرعونه مرات الفرعون الكبير . جابت مائة ولد فى
فى بطن واحده . غير البنات . آى والله .
وما أن سمعت ذلك الكلام . حتى أنحنت على يد الشـــيخة وأغرقتها بوســا ودموعا . واخرجت
من صدرها عشره جنية ودستها فى يدها .. وهرولت خارجه . تريد ان تفعل ما نبهت
عليه الشيخة قبل عودة زوجها عبد المحسن أفندى من المقهى .
أعدت العدة .. ورفعت الاناء على رأسها وأفرغت المياة ثم دعكت بالصابونة الفنيك . وما ان
أنتهت حتى شعرت أن جسمها كله قايد نار . فكتمت صرختها ولم تستطع لبس جلبابها
رمش العين المخصصه للنوم . فانزولت عارية فى ركن السرير تبكى من ضياع الفرصة . ومن
حرقة جسدها . ولم تجرؤ أن تحكى لزوجها على ذلك لما رآها على هذا الحال . وهو
مصمص اسنانه عجبا . ثم أعطاها ظهره ونام . وظلت طول الليل على حالها حتى غفت
من التعب ..
**********************
.. فى يوم موســـم عاشوراء ، جهزت فرخة عتقية دستها فى الارز . ووضعتها فى مشنه
مع طبق ملوخية . وحملتها على رأسها . وعزمت الذهاب الى أبيها فى الحقل . وفى
نصف الطريق قابلها زوجها عبد المحسن اذ كان راجعا من العمل . يتأبط الجريدة وفى
يده اليمين المنشه .
_ رايحه فين يا وليه ؟؟ وأيه اللى شيلاه على دماغك ده ؟
_ رايحه لأبويه ..... أوديله الغدا ... كل سنه وانته طيب ياسى عبده . ما تيجى تتغده معاه .
_ لاء ... روحى أنتى .
_ طب ويمين النبى لا أنته جاى ... يوووه حلفتك بالنبى .
_ اللهم صلى عليك يا نبى ... طيب .
رجع معها وســارا يتحاكيان . ويوزعان التحايا على الناس . وعبد المحسن ينش لا شئ
بالمنشة ثم يضرب بها كفه الشمال . وعندما وصلا عند بداية الجبانات . زعق عبد المحسن
بصوت رخيم بعد أن أبطئ ســيره ووضع المنشة تحت أبطه مع الجريده . ورفع كفيه .
_ الفااااتحة لأمواتنـــا واموات المسلمين .
_ ولا الضااااالين آآآآآآمين ..... ؛
لما انتهيا من قراءة الفاتحة . كانا قد اقتربا من مقام الشيخ حسن الاعظم . ألتفتت أم هاشم
ناحية المقام فذلت قدمها ووقعت على الارض . ووقعت المشنه وتناثر الارز والملوخية .
وتدحرجت الفرخة مترين .. وقد علق بها التراب وبقايا روث البهائم .. وظلت ام هاشم منكفئة
على وجهها قاطعة النفس . وعبد المحسن يضربها على صدغها محاولا أفاقتها . حتى تجمع
المارة والجيران وأشموها بصلا . أتوا به من زرعة كانت تتوسط باب مقام الشيخ حسن
الاعظم فشهقت وأفاقت بعد أن فركوه فى وجهها فركا . وكان كلب الحاج مسعود البقال
الذى طرده عملا بنصيحة الشيخ عبد الرحمن امام الجامع . مارا يتلوى ويلعب بذيله . ما
إن شم رائحة الفرخة حتى أنقض عليها بأنيابه وأخذها وولى هاربا داخل الجبانات .
وفزع عبد المحسن وترك رأس أم هاشم التى كانت فى حجره فأرتطمت بالارض وصرخت
أم هاشم . وصاح عبد الحسن كأنه يستنجد .
_ حلق ياوله .... حلق على الكلب يا جدع .. الله يقطع الكلب والحاج مسعود فى يوم واحد .
يا سنه ســوخه يا ولاد ... طب والله لما أشوفك يادى الكلب .
وزامت واحــدة من الواقفين .
_ يا خســـارة الفرخة يا ولاد .
.. حملوا ام هاشم على عربة سيد اسماعيل الكارو . وركبت جوارها الباتعة زوجة الشيخ
عبد الرحمن امام الجامع اذ تصادف مرورها وبعض نسوة القرية العائدات من الحقول .
_ مش دى أم هاشم بنت الحاج زكريا ؟
_ أيوه أخت أسم النبى حارســـها الست مفيدة .
_ يا حول الله ياربى . ؛
_ يوه .... أومال فين أبنها هاشم ؟؟
_ كهه كهه كهه .. يا حوووومتى ... يخيبك مره .. هيه أسمها كده أم هاشم . ما عندها عيال
ما بتخلفش .. كهه كهه .
_ يوه ....
أخذت النســوة يتهامسن . وهن يضممن شفاهن ويحركانها يمينا ويسارا كالمتشفيات .
المستعجبات . ثم يطوحن ايديهن اليمين كل واحده بطريقتها . واحده تأخذها على فمها
المزموم . واخرى تضرب بها كفها الشمال ثم تمصمص اسنانها . ثم يتناوبن قول .
_ يا حول الله يارب ..... يا عينى ...... يا ولداه .
ثم يضحكن بصوت خافت فى خباثة . حتى وصلوا الى البيت . عبد المحسن قال .
_ طيب يا جماعة ما نجيلكم فى يوم رضى . متشكرين أوى خالص . حسابك كام
يا معلم سيد . ؟؟
المعلم سيد ضرب الحصان الجربان بالكراج وقال .
_ لا والله لا يمكن .... وعليا الطلاق ما آخذ حاجه .
عبد المحسن قال .
_ طب علشان الحصان يا معلم .
رد المعلم سيد وقال .
_ يعنى عايزنى أطلق المره ياسى عب محسن .
_ طب متشكرين اوى . نجاملك فى الافراح ........... قومى يا أم هاشم وصلنا . قومى
يا وليه ..... قومى جك حش وسطك .. مش كفاية الفرخة اللى سرقها الكلب . ؛
*************************
كانت الشمس قد انسحبت من شوارع القرية وأخذت تمشى متخطية الجبانات . ووقف
ظلها قليلا فوق سطح مقام الشيخ حسن الاعظم . حين كانت تمر حمارة عزيزة العمشة
حامله على ظهرها زكيبه ذات طرفين .. فى طرف برسيم . وفى الآخــر فأس وشرشره
وبعض حزم الخضروات وبضع جذور البطاطا . وعزيزة العمشه تمشى تتمخطر وتغنى
ممســكة بذيل الحمــاره . نظرت فوق سطح مقام الشيخ حسن الاعظم . فوجدت الشمس
واقفه لا تتحرك فمصمصت أسنانها عجبا . وقالت فى سرها . شيخ كله بركه . ثم اكملت
المسير حتى وصلت باب الحارة فأنثنت يسارا ودخلتها .
أستوقفتها ام هاشم التى كانت تكنس أمام الدار . ضاحكه . وأنثنت بسرعة ناحية البرسيم
وملأت يدها وراحت تأكله بنهم .. فبهتت عزيزة العمشه وخبطت على صدرها .
_ دا برسيم يا ام هاشم .
_ أيوه عارفه . روحى بتهف عليه من الصبح .
_ ينيلك مره ... طب والنبى ومن نبى النبى نبى أنتى حبـله ... آى والله .
_ حـبـله . ؛؛؛ طب والنبى يا عزيزة ... إن كان .. ؛ لأجيبلك حلاوة طحينية .
_ يوه .. الشمش كانت واقفة على مقام الشيخ حسن الاعظم . دى بشرة خير .
وأخذت تزعرد والحمـــاره من الضجيج نهقت . وتجمع بعض النسوة والبنات حول أم هاشم
يباركوا لها على الحبل الذى لا تعرفه .
_ أنتى فاكرة البصلة اللى فوقتك يوم ما وقعتى ؟؟ كنا واخدنها من على باب مقام الشيخ
حسن الاعظم . بصلة مبروكه آى والله .
_ وقالت عزيزة العمشه . الشمش كانت واقفه على سطح المقام . دا يوم مبروك . أى والله
وقالت صالحة زوجة حسين وكانت حامل فى الشيخ حسن .. مبروك يا أم هاشم . ربنا
يتمم لك على خير .
.. وبهتت أم هاشم من المفاجاة ونمل وجهها وأحمرت خدودها . لكنها ظلت تمضغ البرسيم
المتبقى فى فمها .. وأرتكنت على جدار البيت وقالت بصوت عالى .
_ بت يا صباح ... روحى أندهى لأمى .
.. ظلت القرية طول الليل تتحدث عن البصلة المبروكة التى أفاقت أم هاشم لما وقعت من
شهرين يوم مولد عاشوراء والتى قطعها سيد العربجى من باب مقام الشيخ حسن الاعظم
والشمس التى وقفت على سطح المقام . وحزمة البرسيم التى أكلتها ام هاشم . وهى
بتتوحم .. ولا تدرى أنها حبلى .. ؛
.......................
يتبع.......
نورهان صلاح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق