هل الشعر العامى أدب له مستقبل ؟!
محمد على عزب
للشاعر الراحل صلاح عبد الصبور عدة مقالات عن شعر العامية تحت عنوان " أدب و لكن ليس له مستقبل " قال فى أحدها ( اٍن شعر العامية قدم لنا نماذج طيبة تستحق بكل المقاييس أن تنسب اٍلى رفيع الشعر، و لكنى مع ذلك كله ما زالت أقول أن هذا الشعر لون فنى يبنى بناءه العظيم على خطأ لأنه يعتمد على لهجة لا ثبات لها )1 هذا الخطأ الذى أشار اٍليه صلاح عبد الصبور فى اعتماد شعر العامية الحر " قصيدة العامية " على لهجة لاثبات لها، ينسحب على باقى فنون الشعر العامى من زجل و مواليا و دوبيت و مقطعات شعرية ومربعات، وهذه المغالطة التى تبناها عبدالصبور فى مقالاته تضرب عرض الحائط بتراثنا العربى من هذه الفنون الشعرية، التى أبدع فيها العرب منذ أكثر من ألف ومئتين سنة بداية من فن المواليا و الفنون العراقية النشأة و الزجل الأندلسى، مرورا باٍبداعات المصرين فى هذه الفنون و تطويرهم لها وابتكار أنواع جديدة منها منذ القرن السادس الهجرى .
و قد حملت المخطوطات و كتب التراث الأدبى و كتب الرحالة و المؤرخين المشهورة والمتداولة فى عصرنا هذا آلاف النماذج من الأزجال و البلاليق و الدوبيت و المقطعات الشعرية و المواويل و الأغانى من العصر المملوكى و العصر العثمانى، نتعرف من خلالها على شعراء كبا ر، و لا يجد القارئ صعوبة فى التواصل مع هذه الأشعار و الأزجال المدوّنة بالعامية المصرية المتداولة فى ذلك الوقت و التى لا تختلف كثيرا عن العامية المصرية الحالية حيث أن العامية تأخذ معظم مفرداتها و استيعابها اللغوى من الفصحى كما أشرت سابقا، و من هذه المخطوطات و الكتب ما هو متخصص فى دراسة و نقد فنون الشعر العامى مثل كتاب العاطل الحالى و المرخّص الغالى لصفّى الدين الحلّى و كتاب بلوغ الأمل لابن حجة الخموى فى فن الزجل، ومنها ما يحتوى على مختارات من اٍبداعات لشعراء معروفين فى عصر معيّن مثل كتاب عقود اللآل فى الموشحات و الأزجال لشمس الدين محمد بن حسن النواجى، و منها الموسوعات الفنية مثل المستطرف من كل فن مستظرف للاٍبشيهى و الموسوعات التاريخية التى ضمّت أزجالا و أشعارا ترتبط بالوقائع والأحداث التاريخية مثل بدائع الزهور فى عجائب الدهور لابن اٍياس الحنفى المؤرخ الشاعر، فاٍلى جانب الأهمية التاريخية لهذه الموسوعة التى قدم فيها ابن اٍياس تاريخ مصر بالتفصيل فى العصرالمملوكى الأول والثانى بأسلوب حكائى شيق ولغة بسيطة، فاٍن لهذه الموسوعة قيمة أدبية لا تقل عن قيمتها التاريخية لما تحتويه من نماذج شعرية و بالأخص نماذج الشعر العامى فى ذلك العصر ولكون ابن اٍياس شاعرا فقد كانت لديه القدرة على اختيار أفضل النماذج الشعرية التى استعان بها فى سرده التاريخى و قدم أزجالا و أشعارا كاملة لابراهيم المعمار و خلف الغبارى و بدر الزيتونى وغيرهم، وهناك أيضا موسوعة النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة لابن تغرى بردى المؤرخ زميل ابن اٍياس، و كذلك موسوعة تاريخ الجبرتى المعروفة بعجائب الآثار فى التراجم و الأخبار التى قدم فيها الجبرتى نماذج من فنون الشعر العامى العامى فى العصر العثمانى بداية من سنة 1106هجرية و تراجم لبعض شعراء تلك الفترة كالشاعر الساخر عامر الأنبوطى الذى توفى سنة 1173هجرية .
و من أمثلة النماذج الرائعة التى وردت فى هذه الكتب زجل فى الحكمة للشيخ أبى عبدالله خلف الغبارى قيّم الزجل الذى كان يعيش فى القرن الثامن الهجرى قال فيه :
فى الناس رأينا للخير معادن و الدر يوجد فى كنز مثله
و ان رمت جوهر فى الشخص مكنون فجوهر الشخص أصل فعله
و ان كان تريد صحة المعانى و شرح ما فى البيان محرّر
خد فرع بيدك من أصل حنضل و ازرع جدوره فى أرض عنبر
و اسقيه بماء ورد ممزوج و عقد جلاّب و حلّ سكر
و حين تشوفه عقد ثماره و أن أوانه و حلّ فصله
دوقه تراه مر و السبب فيه ما يرجع الفرع اٍلاّ لأصله
و ضد هذا تلقاه بالاغصان كم غصن لا تشتهى صفاته
حتى اٍذا أينع و اخضرّ عوده أظهر نبات يعجبك نباته
و الورد مثله يخرج من الشوك زاهى و يخضر به جناته
بقدر ما فيه من النعومه تجد خشونه فى لمس شوك له
لكن لشمُّه و حسن قطفه تميل لقطفه و لا تملّه
فى الخلق من بالكرم ثماره تجنى و منهم بالبخل يابس
هذا و هذا من طينه واحده اٍن ردت ده و ده تقايس
كم غصن فى الروض له ضل ممدود مورق و مثمر بالزهر مايس
و غصن لا زهر و لا ثمار و لا أشاير توجب لحملُه
و الغصن ما يفتخر على الروض بغير ثمار أوراقه و ضلُّه
و رغم شهرة خلف الغبارى و انتشار أزجاله فى كتب التراث لم يذكر المؤرخون بالتحديد تاريخ ميلاده أو وفاته، قد ضاع ديوان خلف الغبارى الذى ( كان أثيرا لديه و لم يتحه لأحد، اعتزازا به، و ربما ضاع ديوانه لهذا السبب مع موت صاحبه و ذهب بذهابه )2 و ما كنّا تعرفنا على اٍبداعه لولا أزجاله و أشعاره المتفرقة التى وردت فى كتب التراث و لاقت اهتمام الباحثين و الدارسين القدماء و المحدثين، و قد قام د. عوض على مرسى الغبارى بالاٍبحار والبحث فى بطون هذه الكتب و جمع حوالى خمسمائة بيت من أزجال جده خلف الغبارى، و قدمها لنا فى كتاب / ديوان بعنوان أزجال الشيخ خلف الغبارى و تضمن هذا الكتاب دراسة نقدية قام فيها د. عوض بتحليل الأزجال الواردة فى الكتاب / الديوان و الكشف الخصوصية اللغوية و الجماليات الفنية لأزجال الغبارى .
وهناك زجالون و شعراء كبار وصلت اٍلينا دواوينهم كاملة و نالت شهرة فى عصرنا مثل ديوان قمع النفوس من كلام ابن عروس الذى نسميه ديوان مربعات أحمد ابن عروس الشاعر المصرى الذى عاش فى القرنالحادى عشر الهجرى ، و قد انتشرت هذه المربعات انتشارا واسعا حتى يومنا هذا منها ما تحوّل اٍلى أمثال و أقوال مأثورة، و منها ما يدخل فى الأغانى و المواويل و قد يرددها البعض دون أن يعلم من صاحبها مثل هذه المربعات :
اللى حبنا حبيناه و صار متاعنا متاعه
و اللى كرهنا كرهناه يحرم علينا اجتماعه
و أيضا :
يا بت جملك هبشنى و الهبشه جت فى العبايه
رمان صدرك روشنى خلى فطورى عشايا
و أيضا :
ما حد خالى من الهم حتى قلوع المراكب
اٍوعى تقول للندل ياعم لو كان على السرج راكب
و ديوان نزهة النفوس و مضحك العبوس للشاعر الساخر على ابن سودون اليشغباوى " 810ـ 868هجرية " كتبت غالبية أشعار هذا الديوان بالعامية المصرية، و ابن سودون شاعر ساخر ذاع صيته على مر العصور اهتم بتحقيق و دراسة اٍبداعاته الباحثون فى العصر الحديث و منهم الأستاذ العقاد و د. شوقى ضيف، و أول طبعة لهذا الديوان كانت فى القاهرة عام 1863م و من أحدث طبعاته طبعة سلسلة الذخائر هيئة قصور الثقافة 2010م تحقيق د. أرنود فروليك المنقولة عن طبعة جامعة ليدن ـ هولندا 1998م، و من نماذج أشعاره الساخره هذا النموذج فى الباب الثالث من الشطر الثانى فى الديوان والذى سمّاه ابن سودون الموشحات الهبالية حيث قال عن معصرة قصب :
فى الجزيره معصره فيها قصب يعصروه مقشور
يعملوه جلاّب و سكر شئ عجب ما ابركه فى الدور
أه لو انه بلاش ما له تمن ما بقيت مقهور
أنظر السكر صحيح وارجع أنا بقليب مكسور
يا مفيلّس روح و اقنع بالنظر لا تكون طمّاع
انظر البحر بأمواجه انحدر ما عليه منّاع
خد و فرق و املا عبّك لا امتناع ليس ماء محجور
و قد سافر ابن سودون اٍلى دمشق و انتشرت أشعاره التى كتبها بالعامية المصرية فى بلاد الشام و لاقت استحسان الجمهور، و يدل ذلك على عدم دقة الرأى القائل بأن الشعر العامى أدب لا ينتشر خارج حدود القطر و من قبل ابن سودون انتشرت أزجال ابن قزمان القرطبى المكتوبة بالعامية الأندلسية فى بلاد المغرب و المشرق العربى و أورد نقاد و مؤرخو الأدب العامى فى العصر المملوكى بمصر و الشام نماذج من أزجال ابن قزمان و مدغليس الأندلسى و اهتموا بها، و نجد أن من بين نقاد و مؤرخى الشعر العامى من كان ينتقل بين البلدان العربية ينقد اٍبداعات شعرائها و يقدم منها نماذج، مثل صفّى الدين الذى كان شاعرا و ناقدا ولد فى الكوفة فى القرن السابع الهجرى و تنقل بين بلاد العراق و الشام و مصر و ألّف كتابه الشهير العاطل الحالى و المرخّص الذى أورد فيه نماذج من اٍبداعات الزجل و المواليا و غيرها من فنون الشعر العامى لشعراء من عدة دول عربية، و كذلك عبد الرحمن ابن خلدون المؤرخ و الرحّالة الكبير أورد فى مقدمته الشهيرة عند حديثة عن فنون الشعر العامى و تصنيفها نماذج من اٍبداعات شعراء أندلسيين و مغاربة و مصريين و عراقيين .
و اٍن كان الحال هكذا فى العصور الوسطى فما بالك بعصرنا هذا الذى حدثت فيه ثورة الاٍتصالات و أصبح العالم كما يقال قرية صغيرة، و ينطلق أصحاب الرأى القائل بأن الشعر العامى أدب لا ينتشر خارج حدود القطر من أن لكل قطر عاميته الخاصة التى لا يفهمها غير سكّانه!، و نؤكد مرة أخرى على أن العاميات العربية جميعها فى جوهرها لغة واحدة تستمد معظم مفرداتها من العربية الفصحى، و يتجاهل أصحاب هذا الرأى انتشار أزجال بيرم و أشعار فؤاد حداد و صلاح جاهين خارج حدود مصر، هذا بالاٍضافة اٍلى أغانى أم كلثوم و عبد الحليم حافظ التى كتبها حسين السيد و مرسى جميل عزيز و أغانى عبد الحليم حافظ و غيرهم، وأغانى فيروز التى كتبها الشاعر اللبنانى سعيد عقل .
**************************
الهوامش
1 ـ نشأت المصرى ـ صلاح عبد الصبور ـ الاٍنسان و الشاعر ـ الهيئة العامة للكتاب ص52
2ـ عوض الغبارى ـ أزجال الشيخ خلف الغبارى ـ الهيئة المصرية للكتاب ـ سلسلة الثقافة الشعبية 2013م ص 23
مقتطف من كتابى ( عن تحوّلات الشعر العامى بين التراث والمعاصرة ) ـ يصدر قريبا اٍن شاء الله عن اٍقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافى ـ هيئة قصور الثقافة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق