2014/05/17

التشخيص والفرجة الشعبية فى نزهة النفوس ومضحك العبوس .... بقلم / محمد على عزب






التشخيص والفرجة الشعبية فى نزهة النفوس ومضحك العبوس
بقلم / محمد على عزب



ِالشاعر على بن سودون اليشغباوى المصرى الجركسى الأصل " 810 ـ 868 هجرية / 1407 ـ 1463 م " علم بارز من أعلام الأدب الساخر فى مصر المملوكية، أراد والده الذى ابتعد عن العمل بالسياسة على غير عادة غالبية المماليك أن يصبح ابنه عالما فألحقه بالمدرسة الشيخونية قرأ فيها القرأن (عند الشهاب النعمانى وحفظ الكنز وقرأ فيه على جماعة منهم السعد بن الديرى، مع شرح عقيدة النسفى )1 ولم يكن تعليم ابن سودون دينيا تعليما خالصا فقد درس علم الميقات وقرأ فيه (على ابن المجدى وغيره وفى العروض على الجلال الحصنى والشهاب الخوّاص والاٍبشيطى .. وحجّ مرارا و سافر فى بعض الغزوات و أَمَّ ببعض المساجد )2 ولم يساعده علمه فى الحصول على منصب مرموق فعمل فى عدة مهن منها الخياطة و خيال الظلّ ( وتعاطى الأدب فبرع فيه وسلك فى أكثره طريقة هى غاية فى المجون والهزل والخراع والخلاعة فراج أمره فيها جدا وطار اسمه بذلك وتنافس الظرفاء ونحوه فى تحصيل ديوانه )3 ثم سافر اٍلى دمشق وأقام هناك حلقة يلقى فيها أشعاره وأزجاله الساخرة واتخذ من ذلك وسيلة للعيش، وقيل اٍن والده قد سمع ( أن ابنه يتعاطى التمسخر مع الأرذال تحت قلعة دمشق، فأتى والده اٍلى الشام ووقف على حلقة فيها ولده يتعاطى ذلك فلما رأى والده أنشد:
قد كان يرجو والدى بأن أكون قاضى البلد
ما تم اٍلاّ ما يريد فليعتبر من له ولد )4

ترك ابن سودون ديوانه الشهير نزهة النفوس و مضحك العبوس الذى جمع فيه اٍبداعاته الشعرية و النثرية وقام بتدوينه بنفسه مع ابن زوجته وقال فى مقدمته ( كنت كلّما جمعت من هذا النوع شيئا شتت الناس شمله فمنهم من يختلس بعضه ومنهم من يسرقه جملة ثم جمعت ما استحضرته وصرت أكتبه كيف يكون وأخلط والمدح والغزل فيه بالمجون وسميته نزهة النفوس ومضحك العبوس ثم خطر لى أن أميّز جده عن هزله أن ألحق كل نوع بشكله فبادرت عند ذلك وانتصبت لتميزه راجيا ممن عثر فيه على خلل أن يسامحنى )5 وقد قسّم الديوان اٍلى شطرين الشطر الأول فى المدح والغزل وغيرها من الجدّيات و هو شطر صغير يشكّل خمس عدد صفحات الديوان أمّا الشطر الثانى فى الهزليات وكتبت غالبية أشعاره بالعامية، و قد قسم ابن سودن هذا الشطر اٍلى خمسة أبواب الأول فى القصايد التصاديق والباب الثانى فى الحكايات الملافيق ، و الباب الثالث فى الموشحات الهبالية والرابع فى دوبيت وجزل ومواليا والباب الخامس فى التحف العجيبة الطرف الغريبة وألحق الديوان بفصل سمّاه " الذى قلته على طريق العجم "، أمّا مخطوط هذا الديوان فتتوزع منها عدة نسخ فى مكتبات أوربية و عربية و تمت طباعته لأول مرة فى القاهرة سنة 1863م وكانت نسخة سيئة الطباعة، ومن أحدث وأشهر طبعاته المحققة طبعة جامعة ليدن ـ هولندا 1998م تحقيق المؤرّخ والمستشرق الهولندى د. أرنود فروليك واعتمد فى تحقيقه على نسختين لمخطوط الديوان، النسخة الأولى محفوظة بجامعة أكسفورد ـ المجموعة البودلينية وتاريخ تدوينها 26شعبان سنة 862هجرية، والثانية محفوظة بدار الكتب المصرية مجموعة أدب تيمور رقم 945 وتاريخ تدوينها 24 ربيع الأول سنة 862هجرية وأشار لها برمز حرف B فى الهوامش وفى متون بعض النصوص عند مقارنته بين النسختين وتوضيح الفروق بينهما، و قدمت الهيئة المصرية لقصور الثقافة هذا الكتاب سنة 2010م فى سلسلة الذخائر وقد اعتمدنا فى قراءة أشعار ابن سودون على هذا الكتاب وعلى صورة من نسخة لمخطوط الديوان محفوظة بمكتبة جامعة ليبزك فى ألمانيا تحت رقم vollers 0567وعليها اسم الناسخ محمد ابن ابى بكر بن غانم وتاريخ النسخ 15شعبان سنة 900هجرية، وهى اٍحدى النسخ المنقّحة التى قام الناسخ بنقلها من نسخة أخرى نقّحها ابن سودون قبل وفاته وتختلف عن الكتاب المطبوع ـ تحقيق أرنولد فروليك ـ فى أن بها أربعة موشحات هبالية وأربعة نصوص من المواليا و ثلاثة من الدوبيت و نصين من الزجل أحدهما طويل و ثلاثة بلاليق قصيرة فى الجزء الأخير من الديوان لم ترد في الكتاب المطبوع كما أن هناك أربعة أشطر كاملة ناقصة من موشح هبالي و ستة أشطر ناقصة من موشح هبالى آخر فى الكتاب المطبوع ـ تحقيق د. أرنو فروليك ـ وموجودة فى هذه النسخة وكذلك بعض الحروف والكلمات مستبدلة بحروف و كلمات آخرى .

أهم السمات التى تميّزت وتفرّدت بها اللغة الفنية فى نزهة النفوس ومضحك العبوس من حيث طابعها التعبيرى، هى استخدام مفردات و تراكيب من لغة الأطفال و استخدام صيغة التصغير بشكل لافت فلا يكاد يخلو نصّ من هذه الصيغة، واستخدام المعينات الاٍشارية " الضمائر و الأفعال " الدالة على حضور الذات فالشاعر على امتداد نصوص الديوان يقدم / يحكى للمتلقى من خلال رؤيتة الفنية مواقف و تجارب ساخرة عاشها أو رأها، يقوم بتمثيلها مستخدما مفردات من لغة الأطفال وصيغة التصغير وكأنه يعرض حياته الشخصية عبر التمثيل / التشخيص الشعبى فى بابات " تمثليات " خيال الظل أو حكايات صندوق الدنيا بمخيلة وذاكرة بصرية لطفل يخاطب الأشياء والنباتات والحيوانات كما فى هذا المواليا الذى خاطب فيه بقرة :
ليش يا بقيره أنا اسمعكى تقولى امبوه
وابنك كمان خدوه الناس وما جبّوه
يا بخت دا أكلوه من كتر ما حبّوه
ماعاد يحتاج اٍلى ممّه ولا اٍمبوه
وقوله فى هذه البليقة عن يوم طهوره :
من زمان و انا صغير وعَلِى قد طاهرونى
وعَلَى فرس مزوّق فى الزقاق قد دوّرنى
وبسلارىّ كمانه فوق قماشى سلرونى
وبقى معى منيديل انشّ به الدبّان تريري
كلما جت واحده لى قلت هشّ هشّ طيرى
بعد دا قام شى وجعنى فبقيت ابكى واعيّط
وبقت أمى حدايا بدعاها لى تحوّط
عملت مثل الجكاره كلما أبكى تزغرط
رحت انا منغاظ فجتنى تنبله تشرح صديرى
قلت لا والله احلفى لى ما تعيدى لى طهورى
فى المطلع يذكر ابن سودون أنهم قد طاهروه عندما كان صغيرا واسمه " على " ويصف بطريقته التمثيلية يوم الطهور مستخدما فى ذلك لغة واصفة تخاطب المخيلة البصرية للمتلقى / القارئ، والمرجّح أن ابن سودون الذى عمل مخايلا " ممثلا " فى خيال الظلّ يحرك الشخوص / العرائس ويلّون صوته ويحاكى أصوات الطيور والحيوانات من وراء ستار شفاف تنعكس عليه ظلال تلك الشخوص التى بينه و بينها وسيلة اٍضاءة، كان يقوم بآداء حركات و اٍيماءات تمثيلية وهو يلقى أشعاره الساخرة فى الحلقة التى يستمع اٍليه فيها الجمهور، ففى هذه البليقة استخدم سودون الوصف المقرون بالكلمات الدالة على الحركة " وصف سردى" وهو يحكى عن يوم طهوره عندما وضعوه على فرس مزوّق داروا به فى الزقاق، وألبسوه السلاريّ وهو نوع من الثياب بدون أكمام أو بأكمام قصيرة جدا يصنع من الحرير أو القطن البعبلكى و سمى بهذا الاٍسم نسبة للأمير المملوكى سلار، وأعطوه منديلا ينشّ به الذباب ثم أحسّ بشئ يؤلمه فبكى وكلما كان يبكى كانت أمه " تعمل مثل الجكارة " وتزغرد، والجكارة كلمة وردت فى مثل شعبى شامى متداول فى ذلك العصر كان يقول " جكارة فيّا " بمعنى العناد والمناكفة، وعندما جاءت أمّه تنبله أى تدعى البله وهى تمزح معه لتصالحه وتشرح صدره استحلفها بالله أن لا تعيد له طهوره .

اشتهر ابن سودون بأسلوب ساخر أشار اٍليه الدارسون وهو اٍثارة الضجّة حول أشياء بديهية معروفه، والحديث عن هذه الأشياء على أنها من العجائب والغرائب فتحدث المفارقة المثيرة للسخرية بين التصوّر الذى يقدمه الشاعر، وبين الصورة الذهنية القارة فى وعى وذاكرة المتلقى مثل قوله:
من رقد فى الماء يبله اٍى و لو كان فيه كله
و الذى ينكر أقل له جرّبه تعرف يا خىّ
والاٍنسان فى أسوان كالنسوان، له اٍسنان
خلقة المولى العلىّ
من رقد فى السطح عريان فى الشتا تلقاه بردان
اٍى ولو يا ناس قد كان ابن سلطان كسروى
و قوله:
اٍسمعوا يا ذا الحضور منى عجاجيب الأمور
أمّا السما فهى السما والقمرمر فيها يدور
والبرق اٍن برق زرق تمنطرت بعده المطور
و كلّما اتباكى السحاب تمضحكت منه الزهور )6
و قوله فى قصيدة معربة تضمنت بعض التراكيب والمفردات العامية :
عجبُُ هذا هذا عجبُ بقرهْ اٍمبو و لها ذنَبُ
ولها فى بِزْبِزْها لبنُ يبدوا للناسِ اٍذا حلبوا
لا تغضب يوما اٍن شُتمت والناسُ اٍذا شُتِموا غضبوا
لا بدَ لهذا من سببِ حَزْرا بَزْرا ماذا السببُ )7
وأرى أن هذا الأسلوب فى السخرية ليس فقط مجرّد تحامقا أو ادعاءا للبله والغفلة لاٍضحاك المتلقى، ولكنه يحمل فى طياته رؤية فلسفية ساخرة تشير اٍلى أن صفة العجيب والغريب لا تكون فى الأشياء والظواهر و الكائنات بل اٍن الاٍنسان هو من يضفى عليها هذا الصفات بناءا على رؤيته لها، واعتياده على اٍدراكها و عرضها بشكل معيّن وأن الاٍختلاف بين الناس فى رؤية واٍدراك وعرض نفس الأشياء يكون مثيرا للسخرية .
واٍلى جانب الأسلوب السابق استخدم ابن سودون فى بناء مفارقاته الساخرة أسلوب التحايل والمكر كما فى هذا المواليا :
فيك يا كريّمه عنيقيد عالى ما أوصل له
حامض وحش ما استوى أفو على شكله
واٍن تقولى استوى طيب وقد حلّه
دلّيه لعندى كده أدوق منه وانا اشهد له
رأى ابن سودون شجرة عنب بها عنقود عال لا يستطيع الوصول اٍليه فحاول استدراجها بأسلوب ماكر لكى لكى يحصل على هذا العنقود، فقال أن لها أن شكله سيئ لم وينضج بعد واٍن قلتى أنه قد طاب فقومى بتدليته كى أتذوقه وأشهد له .
وكذلك استخدم ابن سودون الاٍستعارات والتشبيهات الغريبة والطريفة فى بناء مفارقاته الساخرة ومن أمثلة ذلك قوله :
نخلة المشمش قد باضت والمويزه منها اتغاظت
قامت تعرّت وخاضت فى قطر آه لو أتانى
فى هذا المثال استخدم ابن سودون الاٍستعارة المكنية الطريفة والمبتكرة فى بناء المفارقة حيث شبه شجرة المشمش بالدجاجة، و حذف المشبه به " الدجاجة " وأتى باٍحدى لوازمه وهى أن الدجاجة تبيض وشبّه ثمرة الموز بالمرأة وشبه قشرها بالملابس، وأنها عندما رأت شجرة المشمش تبيض اغتاظت وتعرّت ثم خاضت فى طبق من العسل يسمى قطر النبات .

ومن الطريف أن ابن سودون فى الشطر الخاص بالهزليات من نزهة النفوس ومضحك العبوس قد تناول الأغراض الشعرية المعروفة كالمديح والرثاء، وغيرها من الأغراض التى تناولها فى الشطر الخاص بالجدّيات ولوّنها بالسخرية والتهكم .
ومن أمثلة ذلك فى المديح قول ابن سودون فى طفل رضيع :
ما احسن النّنّه بتختُه حين يقوم يفتح عوينُه
ويناغى امّه و يلعب فى البزيزه يا فُنّينُه
لو عمل هذا كبير سقّعوا و الله دقينُه
ما احسنه من فوق ثيابه مريله على صديرى
و قبيعه فيه خريزات فيه شريريبات حريرى
له حديث و ضحك ما احلاه اٍن تحدّث أو تبسّم
و يقول تُتّو و نُنّو اٍن تقعّد أو تنوّم
و يسسّ اٍن خطر له فى التُخيت أو فى الحُجيرِ
لا يخاف ولا يبالى من صغير أو من كبيرِ
يمتدح ابن سودون رضيعا " نِنّه " فى مهده " تخته " يستيقظ من نومه و يناغى أمّه ويلعب فى صدرها بفن، ويصف ابن سودون بلغتة البصرية ملابس الرضيع فى ذلك العصر الصديرى والمريلة والقبعة ذات الخرزات و الشراشيب " الطرطور"، ويعدّد ابن سودون مناقب ممدوحه من حيث حلاوة الحديث والضحك وجرأته فى أنه " يسسّ " يتبوّل عندما يريد ذلك سواء فى السرير أو فى حجر أحد فهو لا يبالى ولا يخاف من أحد .
وفى الرثاء الساخر قال ابن سودون :
لا يصعب عليك يا مّى الموت لا غنى عنّه
كم تركى وكم عمّى مات قبلك وعاش ابنه
من بعدك بقى يتمى عمرى ما اتخلّّص منّه
مثلك ما التقى أخرى الأمّات حرام بعدك
الله يرحمك بكره والمغرب على بعدك
ما دام ربى يبقينى أدعى لك بحمد الله
يتضح هنا كيف استطاع ابن سودون ببراعة فى أن يأتى بمفردات من معجم الرثاء فى شعرنا العربى ويصبغها بالسخرية والتهكّم، عبر توظيفها فى نصّ شعرى هزلى يرثى فيه أمه الراحله ويقول لها أن الموت لا غنى عنه فكم من تركى الجنس وكم عم من أعمامه قد مات و ترك ابنه، و يطمئنها بأنه بعد موتها لن يتخلّص من يتمه ولن يبحث عن أمّ أخرى فقد حرّم على نفسه " الأمّات " الأمّهات من بعدها .
وفى النسيب والفخر قال :
أنا من أنثى أنا من ذكرِ كان أصلى وأسألوا عن خبرى
قد مضت لى زفّه يومها طاهرونى اٍى وذا فى صغرى
وبقت أمّى ما أخلعها فى زغاريط بفرحه تررى
لمّا رأيت الموس شخّيت ولو كان غيرى رآه لخرى
كان الشاعر العربى فى الفخر و النسيب يضفى على نفسه و على قبيلته صفات النبل والبطولة والفروسية بشكل مبالغ فيه، ولكن ابن سودون فى هذا الغرض الشعرى فارق المألوف بمنظور الساخر الطريف فعن نسبه قال أنه ابن أنثى وذكر، وعن فخره بنفسه قال باعتزاز أنه لمّا رأى موس الحلاق عند طهوره تبوّل فقط ولو كان هناك شخصا غيره فى هذا الموقف لكان أقل ثباتا وشجاعة منّه وبدلا من أن يتبول يتبرز .
وفى الحكمة والنصح قال :
اٍسمعوا للشيخ قرندل من بلغ نزله وثقّل
ياكل الرزّ المفلفل وهو باللحم السمين
السماط لمّا يمدّون اٍتركوا الأكل من الدون
واسمعوا نصح ابن سودون تلتقوا الخير أجمعين .
قدم ابن سودون هنا صورة هزلية لمقولات شعراء الحكمة و الوعظ التى تتردد فيها أفعال الأمر و المفردات والتراكيب التى تعبّر عن الخبرة، وخلاصة التجربة فى خطابه لمن يأكلون فى الولائم و نصحهم بأن يتركوا الرخيص من الأطعمه الموضوعة أمامهم على السماط وأن يأكلوا الأنواع الفاخرة كاللحم السمين والأرز المفلفل .
وفى الغزل الساخر قال :
قد همت بفيل كالغصن يميل
له خصر نحيل أعانقه يعصفنى
عن وصله أبيت حين شكله رأيت
فى النوم بقيت أهرب وهو يشحتنى
شبّه ابن سودون المحبوب بالفيل وخلع عليه صفات تتناقض مع هذا التشبيه فى مفارقة تصويرية قدم من خلالها ابن سودون تصوره الهزلى الساخر لشعر الغزل، الذى يتحوّل اٍلى هجاء عندما تتناقض الصفة مع الموصوف بها .
وفى المجون قال عن الحشيش :
بلعت يوم بندقه فى لونها خضره
رأيت بياض عينى قد صارت عليه حمره
وصرت عابر و خارج بيتنا ما أدره
وانا ما باقشع شئ لا جوّا ولا بره .
كان المصريون يسمون مخدر الحشيش بندقا فى العصر المملوكى وقد تردد ذكره عدة مرات فى أشعار ابن سودون التى جارى فيها شعراء المجون، كما فى هذه الصورة الفنية الساخرة التى استخدم فيها عنصر اللون والحركة لاٍبراز هيئته وهو مسطول بعد أن ابتلع قطعة حشيش خضراء، فتحوّل بياض عينيه اٍلى حمرة اٍشارة اٍلى فقدان الوعى الذى أدى اٍلى تخبّطه فى الطرقات وهو خارج بيته لا يعلم شيئا .
هناك تقليد شعرى اتبعه بعض الشعراء وهو أن الشاعر كان يكتب وصيته شعرا لأهله طالبا منهم أن يدفنوه بعد موته فى مكان ما أو بجوار شخصّ، و كانت هذه الوصية تعبيرا شعريا عن شدّة وله وهيام روح الشاعر بذلك المكان أو الشخص أو الشئ ، و قد جارى ابن سودون الشعراء فى ذلك وكتب هذه الوصية الطريفة فى نهاية أحد موشحاته الهبالية حيث قال :
يا أهيلى بعد موتى كفنونى بالكنايف
اجعلوا السكر حنوطى واعملوا البانيد لفايف
وانعشونى فى المنيفش وادفنونى فى القطايف
وان دفنتو لى مويزات مع عسل مصرى تريرى )8
ذكر ابن سودون فى هذه الوصية أنواع الحلوى المعروفة فى عصره و من شدة تعلّقه بها طلب من أهله بعد موته أن يكفّنوه بالكنافة ويجعلوا السكر حنوطا له، ويلفونه بحلوى البانيد أو الفانيد وهى حلوى بيضاء ويصنعوا له نعشا من فطائر المنفوش ويدفنوه فى القطائف واٍن تكرموا يدفنوا معه الموز والعسل المصرى .

بالرغم من أن ابن سودون كان ولدا لأب مملوكى جركسى الأصل اٍلاّ أنه انغرس فى عمق البيئة الشعبية و جرت فى عروقه خفة الظلّ المصرية، التى جعلت من النكتة والقفشة سلاحا يواجه به المصريون ظروف الحياة القاسية، فأصبح ابن سودون مصرى المولد والروح عاش حياة الصعاليك فى الحارات والأزقّة التحمت روحه الشعرية بمفرداتها، كتب شعره الساخر من خلال رؤيته الذاتيه عن كل ما يتواجد فيها من بشر ودواب وجمادات وكل ما يدور بها من أحداث ومناسبات واحتفالات .
ومن أمثلة ذلك قال عن احتفالات الزواج :
ما أحيلا يا ناس بيت العرايس من دخل فيه يفرح ولو كان عابس
فيه ترى الناس بين قايم وجالس فى مسرات وتهانى من الله
فيه بشاخين مزوّقه فى تعاليق وقناديل معلّقه فى تزاويق
عسى الله دى الكل يبقوا علاليق حتى أخطف منهم وآكل عسى الله
وصف ابن سودون احتفالات الزواج وبيوت العرائس التى تمتلئ بالمهنئين بين قائم وجالس فى فرح و سرور وتعلّق فيها البشاخين " نوع من الزينة " والقناديل، وألقى بظلال روحه الساخرة على هذا المشهد حيث تمنّى بطريقة تبدو طفولية أن يتحوّل الكل اٍِلى "علاليق" تماثيل من الحلوى معلقة بخيوط حتى يخطف منها ويأكل .
وعن طفل صغير رآه يلعب بفانوس قال:
فى الغطاس رأيت صغير ومعه فانوس مزوّق
وعليه نرجس و تفاح ما اظرفه والله يشوّق
واسمعه يقول لأخته ما لكى مثله فتزعل
با بَتى خَد لى فوينيس مثل خَىّ دا الصغير
برؤيته التمثيلية رسم ابن سودون هذا المشهد الذى رآه فى الحاره و ربطه بمشهد آخر رأى فيه لعبة على شكل قنفذ أصفر مع بائع حلوى ينادى للصغار، فشعر ابن سودون بالأسى والحزن لأن الصيام جاء وهو كبير حيث قال :
ورأيت فى الصوم قنيفد من عجين وهو أُصَيّفَر
وهو مع بياع ينادى الحلاوه يا صُغَيّر
فانغلبت انا كمنّى جا الصيام وانا كُبَيّر
و كتب ابن سودون عن الحيوانات الأليفه مثل قوله عن قطّة صغيرة مع أمها:
يا حزين الناس يا بختى بيتنا جوّاه قطيطه
ادكى فيها علامه أنفها فوقه نقيطه
بايدها تمسح وتلحس وتدور فوق الحويطه
وامّها تصيح نر نو أى تعالى فى حجيرى
ألحسكْ واسقيكْ بزيزه بعدها العبى ودورى
لم يكتف ابن سودون هنا بمحاكاة صوت القطّة وهى تنادى على ابنتها ولكنه قام بتفسير ما تقصده القطة الأم من هذا النداء، وفى العديد من أشعار ديوان نزهة النفوس ومضحك العبوس يقدم ابن سودون نفسه على أنه صاحب خبرة ودراية بلغة الحيوانات والطيور، لدرجة أن ذلك يمثل أحد الظواهر الفنية فى أشعار ابن سودون الهزلية التى يعرضها فى شكل مشاهد تمثيلية طريفة .

*****************

الهوامش والاٍحالات
1ـ السخاوى ـ الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ـ دار الجيل بيروت ـ ج 5 ص 229
2ـ المصدر السابق ونفس الصفحة
3ـ المصدر السابق
4ـ ابن العماد الحنبلى ـ شذرات الذهب فى أخبار من ذهب ـ دار ابن كثير ـ بيروت ـ 1992م مجلد 9 ص 455
5ـ ابن سودون ـ نزهة النفوس ومضحك العبوس ـ تحقيق أرنود فروليك ـ سلسلة الذخائر هيئة قصور الثقافة 2010م ص 3، وفى نسخة المخطوط المحفوظة بجامعة لايبيزك ورقة رقم 3
6ـ صورة من نسخة مخطوط ديوان نزهة النفوس ومضحك العبوس ـ مكتبة جامعة ليبيزك ـ ألمانيا ورقة رقم 65
7 ـ المصدر السابق ورقة رقم 35، و فى الديوان المطبوع تحقيق أرنود فروليك ص 47 جاءت كلمة أنثى بدلا من كلمة اٍمبو وجاء التعبير الدارج حزرى بزرى بدلا من حزرا بزرا وهو أصل حزّر فزّر
8ـ فى المصدر السابق ورقة رقم 60 ( واتركوا عندى مويزات مع قطير نبات كتير )




هناك تعليقان (2):

  1. روعة ... أكتر من 500 سنةواللغة تقريبا واحدة

    ردحذف
  2. روعة أكتر من 500 سنة واللغة تكاد تكون هي

    ردحذف